الأحد، 1 مايو 2016

‪..‬ الدرديري محمد فضل ..

 يأتي مع المطر بصلوات كل ركعاتها سهوٌ


حدث ما حدث في المسافة الزمنية الواقعة ما بين: 22 يونيو/ ومنتصف يوليو 1979 باليونان. هو لا يعرف التاريخ تحديداً، ولكنه يقرب ذلك تقريباً.
كنت والصديقة سيدة ابراهيم الشيخ، نقضي اول ايامنا معاً، منذ ان اخترنا طواعية ان نعكف علي تكوين عائلة. كنا قد اخترنا بلاد الإغريق ، لقضاء تلك الايام بها، بحوافز اصدقائي: ايسوب وكازنتناكس،
(ايسوب) الشهير بالخرافات  التي تحمل اسمه ، والمعروفة في تاريخ الادب؛ وكنت قد ترجمت احدي تلك الخرافات، المسماة: « عربة البلية» ونشرتها في جريدة الاتحاد ثمانينات القرن المنصرم. اما صديقي الآخر والذي وقعت في غرامه ستينات ذلك القرن ايضاً،حينما شاهدت ( زوربا الاغريقي» والتي هو مؤلفها. ومنذ ذلك الزمن رحت اتقصي آثاره العديدة. تم الامر بخبيئة ان اشتم رائحتهما، وهما يجوبان تلك الاصقاع، ويوزعان فيها من خيرهما الثقافي.
ملابسات عديدة رجحت كفة بلاد الاغريق عن غيرها، مع اننا امضينا ما يقرب الاسبوع  في القاهرة.
عودة:ـ
وفي احدى الصباحات الرائقة، من ذلك الوقت الرائق، وبعد جولة صباحية علي الاكروبول، عجنا علي احدي المقاهي التي تشتهر بها اثينا، تحت سفح الاوكروبول، نستمتع بايامنا هناك  وبدفء  اثينا، وبحركة الاغريق النشطة، وبحركة السياح المتمهلة. وبكرم الجغرافيا الاغريقية.
وفجأة هطل علينا من حيث لا ندري، ،في تلك الفجأة  نفسها احتل كامل المشهد، بمنطال جينز اعرج، واظنه فقد نصف رجله اليسري في ثورة قرارات مجنونة، من تلك التي نتوقع ان ترتكبها امثال هذه الشخصيات، غير المقروءة التصرفات!  صحب ذلك العرج انسلالات عدة وفي اكثر من موقع من جسد ذلك المنطال! يحتل الكتف الايسر من الرجل ، حقيبة كتف من تلك التي عرفتها، زمن طلب العلم الشحيح! ذلك ان ما كنا نناله من علم تلك الايام كان شحيحاً بحق، حتي انه لا يستحق تسميته بعلم " من دون تحفظ"..
ومع اشياء كثيرة كانت تميز ذلك الهاطل، إلا ان إطار النظارة بدون عدسات احتل مكانة مميزة من صورة ذلك الهاطل،وابقتها حية  في الذاكرة طيلة هذه الفترة.
وهذه احدي مميزات الذاكرة البصرية عن ما عداها من ذاكرات. وهي الاحتفاظ بالمشهد المتذكر كاملاً بعد تجريده من كل الزوائد البصرية التي تعوق التخزين.
اقول: جلس الهاطل الي طاولتنا، حتي كأنه يعرفنا، او كأنه يقول لنا : تذكروا هذه الهيئة فانا رسول للجميع، بما فيهم السودانيون، وانشغلت انا بتلك الهيئة، وبالاسئلة المجنونة عن هوية ذلك الهاطل، وانشغلت اكثر بالذهاب مباشرة الي عينيه، حتي كأن عدم وجود عدستيها فيها كان رسالة واضحة للبحث فيها عن ما توحيان به الي الرائي،
وحيث ان الذاكرة في ذلك الزمان الواقعبين 22/يونيو، ومنتصف يوليو من العام 1979م كانت مشغولة، ربما بالصحبة، وباحلام العائلة، وبنهارات اكثر ضوءاً.
تكاثر الاسئلة حرمني صحبة كان يمكن ان تكون مميزة.
غير انني اكتفيت بكامل العجز: ربما شبهنا.
لم تنبهني الذاكرة العاطلة، الي انني امام سرٍّ من اسرار الالهة الاغاريق! وربما صديقي ايسوب اراد ان يقول لي : من قال ان زمن الاساطير ولي؛ فالاساطير قد تكون معاصرة علي نهج العصر في الاسطرة.
جلس الرجل قليلاً ومشي لشأنه. ربما لمح نفوراً او انشغالاً من قبلنا، او.........  ومشت تلك اللحظة كاملة الي ارشيف الذاكرة.
و مشي هو يخترع زمناً علي مزاجه ويعيشه علي هواه.
انا ممتن لذاكرتي، فرغم الاهوال التي ضربتها، إلا انها حفظت لي تلك الحظة!
ومشي الزمن ايضاً لشأنه، ومشيت انا في تيهي، اكون عائلة، وارعي غنم السيد الشيطان. الي ان اعادني اليَّ الصديق حسن محمد موسي. فعدت لاتعرف علي انواتي، وبدأت اجني ثمار تلك العودة.
حتي كان 31/7/2012م  اليوم الذي توفي فيه شقيقي ( محمد الفضل احمد علي) وحين قرأت اسمه علي صفحات الفيسبوك ، اعادني الي مربع الحزن، فاوجعني ذلك ايَّما وجع، غير ان متابعتي له برغم الوجع الذي ايقظته  في كامل البدن،  دعتني اكتشفت ان هناك ما يشغل الفكر والسمع والبصر  في تلك المتابعة.  وعلي الرغم من ان ما القاه في متابعتي لذلك الرجل من خيرٍ إلا ان كل ذلك لم يعصمني من الحزن.
لكل ذلك رحت اتابع بنهم يومياً لاثاره، حتي خيل اليَّ ان حلول مشاكلي الوجودية تكمن في هذه الملاحقات النشطة، او كأن وعداً سرياً يقودني الي مخبأ البهجة والمتعة المعرفية، ويبعث ذلك النداء الغامض والشهي، تم كل ذلك بذريعة ان اسمه يكاد يطابق جزئياً اسم شقيقي، او كأنه والده، او بحد ادني ان هناك ما يربطني بعري متينة الي ذلك الكائن الايسوبي!
ثم اصبت بفرح غامر ، حين كتب عنه الصديق حسن،انه - حسن- يقرب المسافة، ويشير الي من طرف خفي، نعم هناك ما يربطك بهذا المبدع، حيث هناك قناعة ان كل ما يعرف حسن لي فيه عود وافر.
فانا اعرف حسن، واعرف ان السير معه يقودك بلا ريب الي اوجار المنفعة والمسرة.
كتب حسن عنه كتابة العارف لفضله من باب الصحبة، وهي من اوثق الاسانيد في الرواية،
وحتي ذلك الوقت الذي نشر فيه حسن شعره، لم استطع ايقاظ تلك اللحظة النائمة بعيداً في تلافيف الذاكرة لاربطها بهذ الذي اصطحبه يومياً واستخلصه لنفسي.
حتي كان نهاية العام السابق، حيث وصلتني رسالة في لغة انجليزية سلسة،مفعمة بالود وبالمحبة، تشير الي الكثير من المشتركات الي تشركنا. تم كل ذلك بواسطة تلك الـ LIKE  ، والتي لم اتصور انني يمكن ان امدحها، ابرر لنفسي: « لم تكن الـLIKE وانما مجازها الذي انجز كل ذلك.
وقبل ذلك، استوطنني انجذاب عجيب ، فانا امام حالة فنية كونية.
** رجل يرسم كما يتنفس.!
**رجل يكتب في اكثر من لغة! .
** ويغني في اكثر من لغة.!** رجل يرقص( وهذه لغة كونية)!
** رجل يعزف باكثر من آلة!
رجل باياد كثيرة، وكلها عاملة!
هذا الرجل لايرسم فقط؛ ولكنه الرجل الوحيد ممن اعرف، الذي اعتمد بدنه مسنداً يجري عليه تكاوينه التشكيلية!
وانا الاحقه، لاحظت   أنه يهتم ضمن دائرة اهتماماته الكثيرة بالجسد الانثوي! وهو الجسد الذي نسجت حوله جبال من المحاذير تجعل الاقتراب منه مغامرة تحمل في طيياتها سوء الظن الاخلاقي.
اما حين نظرت كيف يستخدم الرجل اديم بدنه، ادركت ان الرجل يحتاز رؤية جمالية مغايرة للسائد،
المئات من صور  بدنه تقول الكثير والمغاير عن برنامج الرجل الجمالي.
استأذنني في تلك الرسالة الفتح، انه خارج لتوِّه من مشهد موسيقي حي وانه بحاجة لبعض القهوة، عرفت لحظتها ان انقطاعات تلك الحالة الفنية نادرة كما الاكل والشرب تمثل عنده انقطاعات عن فعل الخلق.
وانا اتابع: خرجت مرة كائنات خشبية، احتلت كامل مشهد المدينة ، حيث عرضت، وتوارت المبصورات المدينية الاخري بكل سطوتها البصرية مفسحة كامل فضاء المشهد البصري لديدي ومخلوقاته الخشبية، انه دائماً حيث توجد كائناته يوجد ، حتي حدود التماهي مع فعله الفني، هو معها  يراعاها، ويلبي احتياجاتها وهي كثيرة، وهو الوحيد في الكون الذي يعرف ماتريد، انه هي،وهي هو، وهذا سلوك صوفي بامتياز، انها صوفية التشكيل!
مرة رأيته مع طائرة خشبية : كتب عنها حسن؛رأيت ان لا يمكن اعتبارها بدونه، هما معاً يبلغان رسالة بصرية تقول الكثير وتخبئ الاكثر.
ثم يبقي وعيه ببدنه، وبالجماليات التي يخبئها، ويكشفها  هو بلغة البصر وحدها، وهو بذلك يدغم نفسه في بصرياته، ضمن المشاع الثقافي، مفارقاً بذلك الكثير من تقاليد المبصورات الاوربية.
*** اسمعه وهو يغني، يغني كله، ويعزف كله، مبذول كله لمشروعه الجمالي،
حتي يخيّل اليّ انه يفعل كل ذلك بنفس الطريقة التي يؤدي بها بدنه وظائفه البيولوجية.
*** لا انقطاعات في عملي الخلق لديه.
*** هو يفعل كل ذلك الخير ويمشي.
*** انه ايها الناس، بشر  سوي يمشي بيننا، ولكن خشيتي؛ بل رعبي كله، اننا ننتظر الموت ليعلن عن وجود حياة!! كانت؟ حتي كأن الموت هو الوكيل الاعلاني المعتمد، لتذكيرنا بقيمة من يرحلون! وبقيمة الحياة.
*** اصدقائي ؛ انه DIDI.  الدرديري محمد فضل، رجل نعيش زمنه ولا نعرفه.
***شكراً للصديق حسن، رجل يعرفه ويعرف به.
متي نعرف اقدار الرجال وهم بين ظهرانينا؛ يأكلون الطعام، ويرسمون ويكتبون ويغنون للحياة.
***الدرديري محمد فضل؛ هل هو انت؟ الرجل الذي خبأته الذاكرة الي ذات احتياج؟
*** هل انت الرجل الذي هطل علي جفافنا ذات وقت من 22 يونيو الي منتصف يوليو 1979م. حتي كأن ذاكرتي  كانت تبشر بقدومك!
 منشغلٌ قلبي بالغناءْ.
اُطارِدُهُ في كلِّ جهاته،
انا الطرّادُ،
والطريدةُ المطاردة.
اطاردُ ظنوني،
 والظِّلالَ الهاربة كأنها الذُعرْ.
وتطاردني الظُّنونُ الآثمة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق