«غنى العامية وفقر الفصحى»
الأخ الدكتور النور حمد والإخوة المتداخلون،
التحية والتقدير.
اتتبع دائماً ما يكتب الدكتور النور حمد، كونه رجل درّب نفسه على التفكير، وعلى كتابة ما يفكر به، وأجد متعة خاصة في تتبع ما يكتب.
وأنا أيضاً ظللت مشغولاً بالمقابلة العجيبة (عامية/ فصحى) وأشرت كثيراً، إشارات مقتضبة إلى فصيحة السودان وإلى عامية قريش. في بعض مساهماتي في هذا المنبر.
وأنا أيضاً لست فقيهاً لغويا، ولكني مراقب حسن المراقبة، للغة التي تعلمت كيف اقرأ فيها، وكيف أكتب، واللغة التي اتكلمها في الحياة العادية البعيدة عن القراءة والكتابة. وقد لاحظت ما لاحظه د. النور من ثراء (فصيحة السودان) وعجز (عامية قريش) في أن تعيش الواقع النسبي والمتحرك دائماً إلى الأمام.
ومن مراقباتي أقبل على ماكتبه د. النور «غنى العامية وفقر الفصحى» وتتواصل مراقباتي بالتساؤل عن الاصطلاحين الواردين في العنوان « العامية» و«الفصحي»،
اما طرف المعادلة الاول (العامية) فإنها صفة تقع موقع الذم، إذ هي لغة العوام، والعوام الذين تقول عنهم (الفصحي) هم «عوام ، سوقة ، غوغاء من الناس ، رعاع ، السفلة من الناس ، أوباش» بهذه الصفات الدونية، فإن لغتهم لغة مذمومة، ولذلك استحقت الحاقها بهذه الطبقة، وهذا وحده كاف لوصمها بعدم الكفاءة، والعجز التعبيري، وهكذا كان يجب ان يلحق الاستعلاء العربي الاجتماعي استعلاء لغوي،
هكذا تنظر ( عامية قريش) التي توجت نفسها بعنف لغوي ليس اقل من العنف الدموي الذي ميَّز مسار قريش من القبيلة الي الدولة. وهكذا اصبحت افصح لغات الدنيا، في البلدان التي استعمرتها الامبراطورية العربية الاسلامية، اصبحت تلك الفصحاوات عاميات مذمومات ومتهة بالعيِّ « والعاميات».
قهرت قريش بالسيف كل قبائل جزيرة العرب، وصعَّدت لهجتها الي مكانة (العربية الفصحي) ، ولم يخلو الامر من دم لغوي كثير سال لتنفرد عامية قريش بمركز المتفرد. فصارت لساناً لكل العرب.
ان الاستعلاء العربي، لم يكن من الممكن للهجة قريش ان تتجاوزه، بحيث تتعاون مع لغات العرب الاخري، للاستفادة من خاصية التعدد في اثراء الواقع اللغوي بتكاتف كل تلك اللغات. ولكن كيف السبيل الي ذلك، وقريش لا تريد من يزاحمها، باعتبار لغتها حاضنة لكلام الله المقدس، واصبحت هي نفسها مكان المقدس، ومن يزاحم المقدس؟
أعرف ان العامية هي اللغة التي اصطلح واقع اجتماعي معين على اعتمادها في مخاطباته اليومية وفي معالجة شؤون حياته، وهي بالتالي لغة العوام ، وهم. العوام كما تعرفهم الفصحي/عامية قريش من الشرفة العليا التي اختارتها ضمن ايدولوجيتها الصاعدة الي حكم الامبراطورية الصاعدة هم: «طبقة العوام ، عامة الناس ، جماهير ، غوغاء ، طبقة من السوقة ، عوام ، سوقي ، عاميّ» وواضح من هذا التعريف المتعالي الذي تمارسة (الفصحي) تجاه اللغات الفصيحة قبل الاحتلال العربي لموطن تلك اللغات، و هذا التاعلي هو الذي افرز عاميات عديدة في كل الوطن العربي. وهناك عاميات تنافس العربية في مجال الكتابة، وان كان ذلك يتم علي استحياء من وصمة السوقية التي تتربصهم من جهة ( الفصحي/عامية قريش.
ولم تمارس الفصحي هذا الاستعلاء علي لغات البلدان التي احتلتها العربية، مصاحبة للاحتلال العسكري ولكنها مارستة علي اللغات بنت جلدتها، اللغات العربية المعايشة لها، والتي تفرق دمها اللغوي في كل جزيرة العرب وتحولت الي لهجات تضج بها كل بلدا الجزيرة العربية، وهي اللغات التي كانت فصيحة فصاحة لغة قريش، بل وكانت مكتوبة، كما عرفنا من السبعة السن التي نزل (مصحف) فيها القرآن وكتب. حتي كانت مذبحة التجميع التي ذهبت بكل تلك اللغات، وانفردت اللغة البدوية القرشية باحتلال كامل الفضاء اللغوي.
وتساؤلاتي تمتد للنصف الثاني من عنوان الدكتور النور «وفقر الفصحى»، وقبل تساؤلاتي أرى الدكتور يعلي من شأن العامية ويدني من شأن «الفصحى» وهي ملاحظة أوافقه عليها، وأعود لتساؤلاتي التي أعتبرها جوهرية في هذا الطرح، أولاً من الذي أفصح هذه «الفصحى»؟ ومن الذي توجهها «عربية»؟ فأضحت العربية الفصحى، ونحن نعرف أنها لم تكن إلا عامية قريش، عامية وسط عاميات أخرى كثيرة كانت تسكن جزيرة العرب قبل الإسلام.
نحن نعرف الملابسات التاريخية التي أعلت من شأن عامية قريش حتى أضحت بديلاً لكل اللغات العربية الكثيرة، قبل أن تتعالى عليها عامية قريش.
وقريش في طريقها من القبيلة إلى الدولة، والتي قفزت إليها قفزاً، متجاوزة الكثيرة في مراحل النشوء الطبيعي للدول، وقريش في طريقها إلى تلك الدولة وبالذات بعد موت النبي محمد (ص)، حيث أصبح الصراع سياسياً على الرغم من الطابع الديني (السياسي)، وعليه فقد أنتبه الساسة القرشيون، بعد معركة سقيفة بني ساعدة الدموية، حين شهدت أول قتيل سياسي، الخزرجي سعد بن عبادة، سيد الخزرج، وبعدها آلت السيطرة السياسية لقريش، ومنهم بدأت تتشكل ملامح الدولة القرشية القادمة، انتبهوا لحاجة الدولة الناشئة الي لغة رسمية، تكون هي الوحيدة والمعتمدة في كل شؤونها، ونحن نعرف ان الدين هو شأن قرشي عالي المكانة، وهو الرافعة التي رفعت قريش الي القمة السياسية للعرب.
وقريش في طريقها ذلك، إلى الدولة انتبه سادة قريش، وبالتحديد عثمان بن عفان، الذي في إحدى غزواته في بلاد الشام، هتف به حذيفة بن اليمان، بأن هناك بلبلة في شأن القراءة، تنبئ بخطر تعد الالسن، مما يضعف اللسان القرشي، ومن هنا خطرت للسياسي القرشي عثمان ابن عفان فكرة توحيد كل القراءت في قراءة واحدة هي قراءة قريش «وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة الذين كلفهم بعملية توحيد المصاحف: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن، فأكتبوه بلسان قريش، فإنّه إنما نزل بلسانهم،» (لا؛ لم يقل بلسان العرب) بعد أن أطمأن إلى أن الخلفاء كلهم من قريش، بواقع ما بعد سقيفة بني ساعدة.
ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ وأن هناك سبعة ألسن كتب فيها القرآن،[سبع نسخ من القرآن] وأجازها الرسول (ص)، وكل من الألسن السبعة، كان لغة مكتوبة ومعترف بها، حتى أنني اركن إلى فهمي الخاص لقول الرسول(ص) «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ورضعت في بني أسد»، والتي أخذت وكأنها تعني أن قريشاً هي أفصح العرب، وجيِّر ذلك الفهم الذي أصبحت بموجبه قريش هي أفصح العرب!. وهذا خطل، فمن النص نفسه «بيد أني» وبيد اسم ملحق بـ «إن» يعني غير، أو الاستدراك والرسول الفصيح فعلاً، عندما يستدرك (بيد أني من قريش) يعتبر أن قريش ليست أفصح العرب فعلاً، فهو كان يجيد كل لغات العرب وليس «السبعة ألسن» التي كتب فيها القرآن بإشراف مباشر منه وباعتماد بعضها بخاتمة، إلا دليل على هذه الفصاحة. كما أن الرسول اختار كُتاباً من كل من القبائل العربية قبل إسلامها ليكاتب تلك القبائل، وهذا يعني أنه يجيد كل تلك اللغات بدرجة الفصاحة.
وليس أدل على ذلك من حديث: «ليس من أمر امصيام في امسفر» وهو حديث كنا ندرسه زمن الدرس، وهو دليل آخر عن أن الرسول كان أفصح العرب، وليس أفصح قريش فقط، كما أن تجير حديث «أنا أفصح العرب» وكأنه يعني قريش فقط، يعد إحدى جرائم فقه اللغة التي سادت زمناً، ولم تجد من يراجعها، فما الذي فعله عثمان؟، وحدّ بالدم وبالسحل لكبار الصحابة، كما حدث مع عبدالله بن مسعود، من كبار الصحابة وكان وقتها والياً على الكوفة.. ولم ينجو من معركة تصعيد لغة قريش إلى مقام فصيحة العرب، الكثير من الصحابة والصحابيات، وبذلك صعدت عامية قريش بلباسها البدوي أمام مقام لغة الإمبراطورية الإسلامية، متعالية على كل اللغات التي كانت تسود البلاد التي استعمرتها تلك الامبراطورية.
ويأتي السؤال في أشارة د. النور عن (فقر الفصحى)، هل كانت عامية قريش مؤهلة لأن تكون اللغة المعتمدة لامبراطورية مترامية الأطراف؟ تضج بالكثير من اللغات ، وإن لم تُقَعَدْ، دعك عن قدرتها على التسيد في الجزيرة العربية نفسها، والشاهد: الألسن الأخرى المكتوبة في حضرة عامية قريش وهي تزاحمها فصاحة بفصاحة.
أجيب: لم تكن عامية قريش مؤهلة، حتى لتسود في الجزيرة العربية نفسها والشاهد عند تقعيد اللغة، كان فقهاء ذلك الزمان ومقعدي اللغة، كان عليهم الارتحال إلى موطن تلك اللغة المعزولة بعيداً في البادية، وهذا يشير الي تواضعها حتى في مدن ذلك الزمان. هي تصدق عليها فعلاً ملاحظة د. النور. لغة آتية من توابيتها في بادية الجزيرة العربية، إلى واقع اجتماعي متغير وبسرعة فائقة، وهنا ظلت المفارقة واسعة بين اللغة وواقعها، وهي لغة توابيت فعلاً، هل يصلح الاستعانة بسكان التوابيت على الحياة.؟
لا أظن، وعلى الرغم من الجهد الأكاديمي الذي بذله هؤلاء الأماجد من مقعدي اللغة، إلا أنهم لم يستطيعوا أدماجها في الحياة والتفاعل مع متغيراتها. وكما انتشر الإسلام فعلاً بالسيف، انتشرت كذلك لغته، وفشلت في أن تتعايش في الواقع الجديد، غير أنها ظلت متعالية، وبسفه على كل لسان مغاير، فلم تعش ولم تسمح للغات البلاد التي فتحها بذريعة الغنائم أن تتطور.
«العربية الفصحى» مصطلح استعماري فرضته لغة غير مؤهلة حتى أن تسود في واقعها، فصيحة علي فصاحيات العرب الأخرى.
ملاحظة أخرى أراها ذات دلالة، أن القرآن نزل على نبي أمي، وأمّة أمية!(في الغالب الاعم)، الأمر الذي جعل بعض كتاب الوحي يدعي أن يوحى له كما حدث مع عبدالله بن أبي السرح، الذي كان يكتب ما يمليه عليه الرسول، ففي سورة (الإنسان) «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا..» فأكمل بن اب السرح «فتبارك الله أحسن الخالقين»، فأمنه الرسول علي ذلك وقال هكذا نزلت، وظل يردد أنه كان يكتب القرآن ويعدل فيه، فأهدر النبي دمه، وهو الذي شدّد في أمر إهدار دمه حتى لو تعلق بأستار الكعبة، ولكن يوم فتح مكة أجاره عثمان بن عفانز«وكان أخاه من الرضاعة» رغم كل ما فعله.
وهذا يعني أن المشافهة باب دخل منه عارفو الكتابة على قلتهم بالكثير، وأتى عثمان على خير كثير باهداره ٦/٧ من اللغات التي كان مجاورة للغة قريش، ومن هذا الباب؛ باب الأمية ذكر د. محمد سعيد العشماوي في كتابه «الإسلام السياسي»، أن معاوية بن أبي سفيان، عدل ستة عشرة كلمة من كلمات القرآن القرشي؟
أن تصعيد عامية قريش إلى مرتبة فصيحة العرب تم بدم ثقافي كثير أهدر، في سبيل أن تظل عامية قريش هي الأعلى، كما ن أن ساسة قريش هم الأعلى وحتى الآن بعد اندثار القبيلة فعلياً، ما يزال الدواعشة يصرون على إعادة إحياء قريش من مقابر التاريخ وإعادة ثقافية ميتة لتعين على مواجهة الطوفان المعرفي الذي يجتاح العالم.
ملاحظة أخرى أن الديانات التي نزلت على ثقافات كاتبة ابقت عقلها حاضراً في التعامل مع نصوص تلك الديانات، الأمر الذي عزز مكانه العقل في واقع تلك الأمم.
أما عندنا فمنذ القرن الثالث الهجري، وبعد أن أكملنا تعقيد عامية قريش وعمدناها فصيحة العرب، واكتمل فقه الدين وفقه الحديث وكل علوم اللغة ، ومنذ ذلك الزمان البعيد، سجن العقل العربي، أو العقل اللغوي والقي مفتاح محبسه في الصحراء.
ولم تزل اللغة غير فاعلة ولا العقل العربي فاعلاً، وترك العاميات الفحصيات الأخرى لسد الثغرة التي تركها غياب العقل، لتظل فاعلة في حياة الناس، حتى يقبض أن لها من يقعدها، لتحتل مكانتها المغتصبة بفعل التعالي القرشي العربي وسفهة.