السبت، 1 يونيو 2013

الصديق أحمد‮ بذزيعة «جت‬»

لا أعرف كيف تسكنني‮ ‬بهذا الشكل الشعري؟
كما لا أعرف متى توسطت السيدة المهيبة،‮ ‬ولا كيف؟‮ «صداقتنا‮».
 ‬يا أحمد ليست هذه أسئلة ولا تساؤلات،‮ ‬إنها تقرير حالة كما في‮ ‬الأثر‮ «.. ‬أأنت قلت للناس إعبدوني‮ ‬وأمي‮ ‬إلهين من دون الله؟» ‬هو أثر إسلامي‮ ‬بامتياز،‮ ‬ولكنه قادر على لجم حصان التأويل حيال تقريري أعلاه‮.‬
يا أحمد هل تعرف انك تمنحي‮ ‬يوماً‮ + ‬أيام الزمن الطولي‮؟ ‬فمهما كان رهق البدن،‮ ‬وفي‮ ‬كثير من الحالات أتوقع مكالمتك وأنتظرها،‮ ‬وأثناءها الذي‮ ‬يضحك ليست آليات الضحك المتعارف عليها،‮ ‬أنا أضحك كلي،‮ ‬حتى الأطراف النائمة تضحك،‮ ‬وأنا أشاهد كل ذلك الذي يحدث وأراقبه بعجب،‮ ‬تتوقف المهاتفة وفق الفهم العادي‮ ‬والسائد،‮ ‬ولكنها تستمر عندي،‮ ‬وتدفع بالكثير من الخواطر في‮ ‬الخاطر،‮ ‬والذي‮ ‬يظل مشغولاً‮ ‬بك  حتي في‮ ‬حالات النوم‮! ‬هل تدري‮ ‬أنني‮ ‬زرت الإنجلترا،‮ ‬وصحبني‮ ‬في‮ ‬كثر من جولاتي‮ ‬فيها،‮ ‬وأهديتني‮ ‬سيارة صنع كوريا،‮ ‬وشهدت معك‮ ‬the day of Jundgemen‮- ‬وشهدنا احتراق الكرة الأرضية حتى لم‮ ‬يبق منها إلا جزء أشبه بدائرة أحد الطبين، حيث‮ ‬يقف عشرة رجال من خيرة البشرية،‮ ‬بينهم عبد الخالق محجوب‮.‬
يوماً‮ ‬يا أحمد سأكتب انشغال الخاطر بك لحظة راحة البدن «النوم» أعلاه اختصار مخل لاثنين في‮ ‬هذه الانشغالات‮.‬
وعوداً‮ ‬إلى الصحو،‮ ‬فبعد مكالمتك تماماً يبدأ جسدي‮ ‬ميلاد‮ ‬يومه الجديد،‮ ‬وكأني‮ ‬به‮ ‬يصلي‮ ‬حمداً‮ ‬لصداقتنا التي‮ ‬عوضته خيراً‮ ‬من‮ ‬يومه الميت والعادي‮ ‬والمكرور،‮ ‬ويبدأ إغرائي‮ ‬بالقراءة،‮ ‬وربما مشاهدة الثري‮ ‬مما تجحود به سماء الاتصالات في‮ ‬عصرها المعرفي،‮ ‬وتصحو عادتي‮ ‬القديمنة،‮ ‬الكتابة على مسند الرأس‮.  الساعات التي‮ ‬أقضيها في‮ ‬هذه الأنشطة،‮ ‬أحسبها ضمن عمري‮ ‬الحيوي‮.‬
أمس،‮ ‬وبعد تلك الوجبة المحادثية الدسمة،‮ ‬رحت أكتب خطاباً‮ ‬للسيد‮ «‬جت‮»، ‬خطاب فيه كثير من الأنس والألفة، سيصلك هذا الخطاب حال أستوائه‮!‬
وفي‮ ‬الصباح الذي‮ ‬هو امتداد لأحد أيام عمري‮ ‬الموازي،‮ ‬والذي‮ ‬أعتبره عمري‮ ‬الحقيقي،‮ ‬صحوتك عليك،‮ ‬كل الخلايا استغنت عن مكوناتها الطبيعية واستعاضت بك،‮ ‬حتى أنني‮ ‬أدري‮ ان ‬ما انتويت إخبارك به أنت تعرفه قبلي‮ ‬لأنك كنت هناك‮ ‬غذاءً‮ ‬حيوياً‮ ‬للخلايا‮.‬
أقول صحوت على احتجاج جسدي‮ ‬رقيق ومهذب، كانت لغته شاعرية أشبه بلغة الصديق‮ «جث‮» ‬ولكنني‮ ‬قادر على قراءتها حتى في‮ ‬أعلى مجازاتها‮.‬
وسمعته يغر‮ ‬يني‮ ‬بزيارة لطبيب العيون،‮ ‬وهنا بلغت‮ ‬يا أحمد بلاغة جسدي،‮ ‬صحبتني‮ ‬في‮ ‬التاكسي‮ ‬ومعنا السيد‮ «‬جث‮» ‬وخطايه قيد التكوين‮.‬
كان السيد فلاديمير شنغلايا،‮ ‬لطيفاً‮ ‬كعادته وبإنجليزته التي‮ ‬تضم لكنة روسية من ما قبل زمن العولمة،‮ ‬كان‮ ‬يقرأ عيناي‮ ‬ويترجم بتلك اللكنة التي‮ ‬أجهد لاستخلص منها المعلومة‮. ‬هو فصيح‮ ‬يا أحمد في‮ ‬قراءة العين،‮ ‬وعيني‮ ‬أكثر جرأة وبلاغة في‮ ‬الإخبار والتخاطب معه‮.‬
في‮ ‬المرة السابقة‮  - ‬وهذا ما تعرفه أنت قبلي‮ - ‬أخبرني‮ ‬عن مشروع كتراكت ناشيء في‮ ‬العينين،‮ ‬وهو‮ ‬يحتاج إلى معونات عولمية حتى‮ ‬يبلغ‮ ‬كامل طاقته الإنتاجية‮ «‬العمى‮». وهومت؛ ان ذلك الزمن المقدر افترضاً، يمكنني ان اكتب واقرأ، واحقق غرضي من الحياة. ان لا ابقي إلا في القراءة والكتابة‬
ويبدو أن جسدي‮ ‬قرر معاقبتي‮ ‬على‮ ‬غفلتي،‮ ‬فأقام جسر معونات عاجل إلى ذلك المشروع الناشء‮.‬
لا أخفيك‮ ‬يا أحمد،‮ ‬ارتججت قليلاً،‮ ‬وكنت قد أخبرت السيد‮ «‬شنغلايا‮» ‬قبل جلسة المفاكرة بينه وبين السيدة عيني‮. ‬
انني‮ ‬منزعج من صمت بدني‮ ‬الذي‮ ‬يشبه العاصفة النائمة‮. ‬وإذا بالسيد فلاديمير‮ ‬يؤمن على قراءتي‮ ‬لجسدي،‮ ‬ويقول بلغة مهذبة،‮ ‬تضمر أكثر مما تبلغ‮ ‬أن الأمر‮ ‬يحتاج إلى عناية؟
ومن خلال الحاحي، وعبر تلك اللكنة الشيوعية المعشوشبة،‮ ‬أدرك أن صديقي‮ ‬السكري،‮ ‬والذي‮ ‬كان ضمن حمولات الجسر الداعم، قد سرع وسارع في‮ ‬نشاط السيدة الكترات،‮ ‬وأنني‮ ‬أحتاج بحد أقصى لشهرين لإجراء العملية‮.‬
وأنت تعرف أيها الصديق أنا رجل عيني،‮ ‬آكل بعيني،‮ ‬واشرب بعيني‮، ‬وأمشي‮ ‬بعيني،‮ ‬وأتمنى بعيني،‮ ‬وأحب بعيني،‮  وانيك بعيني، الامر الذي مكنني من تدبير اثر « الفحل بحمل بعينه»،‬وأصادق بعيني‮، ‬وهذا وحده قد‮ ‬يفكك لغز تعارفنا،‮ ‬بدأ بعيني‮ ‬ونشرت حمولاتها إلى‮ ‬غابة جسد؟؟،‮ ‬وما‮ ‬بلغته رسالتها أصبح حديقة‮ ‬يا صديقي.‮ ‬والمسافة‮ ‬يا آحمد بين الغابة والحديقة هي‮ ‬نفس المسافة بين القدم والرأس،‮ ‬بين الحكمة والحماقة،‮ ‬بين الجهل والمعرفة بين قاع الهرم الحياتي‮ ‬وقمته العارفة‮.‬
‮---‬
مازلت‮ ‬تساكنني وتسكنني‮ ‬غذاءاً‮ ‬للحيوي‮ ‬من خلاياي.
ابداً‮ ‬النور
أُواصل
يا أحمد هذه كتابة من مسند الرأس،‮ ‬إليك فانظر أين بلغت؟

يا احمد لا يعرف هذه التطورات إلا السيد «جت» حيث كان يستأجر رأسي لحظتها، والسيدة عيني ، والسيد شنغلايا، وانت بالطبع، وربما مجموعة الخواطر التي كانت تضجُّ في الرأس.
سيدة لا تعرف، لإنها علي درجة من الرهافة بحيث تشكل من هذا الامر المتواضع دراما كونية، أاجل اخبارها عند الواقع،حيث كفاءته الفاعلة في تثخين تارهافة.
يا احمد انتباهتك لارسال الكتابة السابقة للعزيزين فاطمة ومحمد، نبهتني الي غفلتي غير المبررة في اعلامهما، ارجو ان تكون قد ارسلتها فعلاً لهما.
اصدقك القول لو كان الامر بعيداً عن عيني بنانوميتر، لما انشغلت.
واعلمك ايضاً ان العملية جدُّ بسيطة، والتأمين الصحي يؤمن كلفتها


                                        فاصلات

   طالت الفاصلة، علي غير عادتها، وضد وظيفتها، كما طال الشوق كعادته، مسخنٌ بالعطش، مليئٌ بالاسئلة.
    وانت منها ومن شقيقتها الفاصلة(،)مدعمةبها ومسنودة بنقطة(.) وقد منحني المقعدون اسماء عدّة، بعد مسخي، فسموني «الفاصلة النقوطة» و«الشولة المنقوطة» و«القاطعة» وذلك تميِّزاً لي عن صديقتي «الشولة» او هو احتيال بلا مسوغ، وحرموني امتياز «الفارزة» الذي منحوه لـ« الفاصلة»
    انا يا سيدي، لست غاضبة من هذا الحرمان، ولا غايرة من امتياز صديقتي. فنحن من قبيلة واحدة، او بطن من قبيلة الابجدية، وهي بطن« الفاء، والقاف، والواو.» وبدوننا تلثغ اللغة ويعرج الكلام، وتظلع الكتابة.
    ومن الطرائف، انني لم اجد لي موقعاً في «كتاب الله» لا انا، ولا يطني، ولا كل قبيلة العلامات، عدا علامة الوقف المبتكرة -وهي ليست وقفاً كاملاً، ولا حتي منقوصاً- وهي ابتكار خارج منظومة العلامات، علي هيئة نجمة كبيرة، او نقطة، حسب مزاج الطابع.
    انا يا سيدي، فاء لحقها ما لحق بصديقتي ال«،» من مسخ وغلط. وهذا الغلط اخرجني من بطني، ومن قبيلتي، وادخلني كرمز بارد بين غابة الابجدية، بدعوي التقعيد، وبمهام تعسفية لم تحترم تاريخي الرقمي، ولا المساحة الفاعلة، والتي كنت اشغلها وسط قبيلة الابجدية، قبل المسخ.
    وهكذا، وبعسف ممنهج، جعلوني اقف بين محمد وبين صفته وملتصقاته. كما جعلوني، ودون مسوغ اخلاقي، اقف بين السبب والمسَبِبْ. كما احتالوني سبباً للتنفس للآلة الكابة. ولك ان تضحك من هذه المزحة غير المليحة. فقد ابتسروا الكاتب الي آلة الكتابة. وحتي يتنفس قلمك، عليك انان تضعني استراحةً، حتي  لا ينقطع نفس قلمك! ثم اوقفوني بغباء، ودون استشارتي بع كل ادوات الربط. وعلقوني كشاهد قبر بين الاصناف، والمتشابهات، حتي لو كانت الاصناف اعواد مشانق،وعناصر بؤس.
    اما الآن، وقد واتتني فرصة الاحتجاج، فعلي ان انتهزها، حتي اتمختر امامك بتاريخي النبيل، والذي اعتز به، ومنجزاتي التي انكرها المقعدون.
    كنت يا صديقي بطن من بطون الابجدية. وكنا بطناً فاعلةً. كنا نستطيع ان نشكل الـ«فوق» سماوات طباقاً، واحلاماً مجنحة، البسة للخيال-الخلة المسكوت عنها- ومكراً بكراهة الواقع. كنا نستطع ان نلون طيوراً بالغة الجسارة، وجيوشاً من الصحو، ضد الغفلة.كنا نغشي الكسالا فندفع فيهم النخوة، والتعابا، فنمنحهم بوصلة السمو والترقي، والدروب وسالكيها، فندفع فيهم همة الصعود.
    وكنا، حين نتحد، نشكل علامة فارقة، حين يتجاوز العسف حدوده، والفاسق فجوره، والدكتاتور قسوته وفسقه «قف» حتي يستعيد الحلم بهاءه، والروح سموها، والحياة دقيق معناها. نفعل هذا مجتمعين، او مثنيين. وهذه انا مع «القاف»، ومع «الواو» «قفوا». وحين تقف الجماعة،لابدَّ ان يقف الزمن، لتريب مسار حركته. ولابدَّ ان يقف التاريخ، لترتيب اوراقه،وتحديد موقفه من من كتبه ومن من سيكتبه،وتصنيف اولوياته.
    وحين «يقفوا» معاً ضد القعود، وضد الكسل، وضدّ التراخي،وضد العجز. نحن هنا امضي فعلاً من الـ«.» وافعل من كل علامات الوقف الضوئية. فهذه قد يقعدها عمي الالوان، وعمي البصر، وعمي البصيرة، وعمي الكلام. اما نحن، فلا لبس يلحق بفعلنا. نحن نأتي عبر العين، وعبر الاذن، وعبر اللمس، وعبر الكلام. فحين نشكل «قف» يقف مشي الكلام. يقف الفكر محتقناً بالتأمل والتفاكير. ان الاستجابة لفعلنا فورية، وفعلنا حاسم.
    اما حين اقف كالسيف وحدي. فانا فاء الفأل، حين يظلم الواقع، وتدلهم الدروب، وتشتبه القيم، ويضمر الحلم. وبي يضحي «الفأل» ترياقاً ضد الخنوع، وبادرة للاحتمال، وحرارة في جسد الشتاء المشكل للعسف في لحم الفعل.
    انا فاء الفعل، حين يصبح الفعل فرض عين، ومرجع البيان.
    وفاء الفهم، حين تلتبس القيم، وتشتبك المفاهيم.
    انا فاء الفضول. حين يصبح التواضع علي علي قيم الخير والتوادد واجبا يمليه الاجتماع الانساني. وفاء الفصل بين الحلم والواقع، وبين الفعل وإرادة الفعل، وبين الظلم والعدل، وبين الظلام والاستنارة.
    انا فاء الوفاء. إذا مرَّ الكلام، وعري لحم الصديق، وتكالب اكلته. وإذا اعجم من حوله، فانا اعرب، وإذالحن فانا افصح، وإذا عجز كنت ظهرا اسند عجزه وحلمه.
    وانا فاء الفلاح، إذا نودي لإعراب الحلم.
    انا فاتحة الكلام ، والسلام.

  1. ناصر بابكر خليفة
ما الذي يجعل ذكريات ستين عاماً. تظل حية، ومتقدة، ومتسائلة؟ هل هي الذاكرة لحظة رفضها فكرة الموت؟ هل لأن الحياة فعلاً من القصر،بحيث يصبح عبثاً، التضحية بأيِّ قطعة منها؟ هل لأن تقدم العمر يوسع ويكاثر من ثقوب الذاكرة السوداء؟
لقد امضيت العشرة سنوات الاخيرة، يدق في الذاكرة صوتك الشاتم لوسائل الاتصال الحديثة. علي الرغم من الخير الانساني الوافر الذي اصاب سبل الاجتماع الانساني،والتواصل البشري من خلال هذا الانفجار  المعلوماتي والمعرفي.
لم يكن صوتك ذاك، معزولاً عن لحم تلك الحيوات التي تشاركنا صناعتها، والتي اصبحت سداة في نسيج ذاكرة ترفض سطوة الظلام، وكل فقهائه ومروجي صناعة العوام. ان فكرة الموت ملازمة لفكرة التراب.. احدي العناصر المتحدةلصناعة هذا الكيس الذي نسميه بشراً. كيس من اديم يحوي عظاماً، واخلاطا، وخراء. ويسعي جاهداً في انتاج حياة جديرة بالحلم.. وهو انساني طبعاً؟
ولكن فكرة الموت ،او قل سطوته، تتردد كثيراً عند الاقتراب من حقل الذكريات . ذلك ان صناعة الذكريات تصبح احدي مكونات صناعة الحياة ، في فرز غير نهائي.
فتشت عنك كثيراً في هذه السماء التي قرُبت كثيراً بفعل هذه الوسائط «الملعونة».
في الحقيقة انا لا ابحث عن «ناصر بابكر خليفة» الذي فصلتني عنه سنوات متخمة باليباس، وقد ساعدت الجغرافيا في تسميك جلد الدياسبورا «بت الغلفة» ولكنني ابحث عن ناصر الذي اعرفة. واعرفه بحماس، كوننا تشاركنا صفوة ذلك المكان اليابس، وآخرين. وكوننا تشاركنا صناعة الذكريات النضرة. بحساب زمن التفتح والاحلام المجنونة.ابحث عن ناصر، الذي كان اول من عرفني ب«عزرا باوند» ناصر الذي عرفني علي «كائنات علي قنديل الطالعة» مشروع الطبيب والشاعر الذي غادر مبكراً بحدود الاتنين وعشرين عاماً (5/4 /1953 ــــ 17/7/1975 م)
علي قنديل الذي شكلت حماماته في « كائناته......» علما كبيراً في سماء البلاد التي شكلها  ضمن ما صاغ من كائنات.
ناصر الذي عرفني بـ ريلكه، الذي صرخ يوماٍ وهو في جنوب مصر،وقيل في ليلة شديدة البرودة؛ وقد اغراه النوم تحت تلك الاعمدة البالغة  الشهاقة لمعبد الكرنك،وذات صحوة صرخ:ـ
«آهٍ من العمود
ان التدمير جعله علي حق
انه يحمل ليل مصر»
هذا هو ناصر الذي افتش عنه ولن اتوه
ناصر قائد الهروب الكبير، الذي شتت جنده في برية الله، والتجأ الي ارومة زائفة، واضطرد جنده الي امتهان صناعة الكذب حتي ينجو من غضبة النظر ابراهيم السيد، وردتها علي «بسطونة» الماجري، او حسن يوسف جيلي؟
ابحث عن ناصر الذي يهوي التهويم، باحثاً عن معادله الموضوعي في خبايا الصمت، وقيل في صمت الحانات، وصمت السكاري الغنائي. وفي كهوف الذاكرة المسكونة بكل مجانين العالم، رامبو، نيتشة، فولكنر،اوغست سترندبيرج، ذلك الممسوس الذي وقف يوماً علي شاطئ البحر الاسود، ليصيح في حبيبته:ـ « ان مياه البحار هي دمائي،وإن حجارة العالم هي عظامي، موتي معي الآن، لأن اللحظة القادمة ستجلب الحزن»؟؟؟؟ وذلك في رائعته «الطريق الي دمش»
لدي طرف ذلك المجنون، والذي كان  يدعي قبل نحو النيف والثلاثين عاماً ناصر بابكر خليفة. لدي طرفه ذكرياتٍ حميمة وحية. اريدها ، نقطة نقطة، وحرفاً حرفاً، حتي تلك الكائنات التي كانت تحادثه من خلال الجدران. الخطوات التي مشيناها مراراً، بين الزندية والهشابة، في ذلك السهل الترابي صيفاً المائي في فصل الخريف، والموحش والعدائي شتاء
كما اريد فوق البيعة؛ كلَّ سكره العبقري، وذلك الهروب الامامي المتلاحق،وتلك السباحة الحرة فوق الواقع، من اجل رصده ام تجاوزه؟نحو واقع مازال قيد الخاطر؟؟؟؟
يا صاحب هذا العنوان السمائي، ان التقيت صديقي هذا، كاملاً او جزءاً منه، والذي افتقدته وهو بحدود الخامسة والثلاثين ، شاب ملئ بالشعر ، والسكر، والاسئلة . دلني عليه.
اريده في عناد ابن السابعة، والذي كان يعاني الامرين حين يرفض الذهاب للمدرسة، والذي اراه الآن من موقعي هذا رفض لذلك الفضاء الزنديِّ الموحش والفقير، والخالي من كل إشارات للحياة، ولكنه  لا يبين. او لم يدرب بعد اجهزة الرفض لدية بما يتلاءم واشتراطات ذلك الواقع،
إنه يختصر في يومه كل الحياة، حتي يرهق يومه كله.
دلني عليه ينوبك ثواب.
إنه جزئ اصيل من حياة كانت جديرة بالدفاع عنها، بالمشاركة في انتاج ادوات تسمينها، وتثمينها ضد غوائل الدهر، وضد الصدأ/
 
الرمز السناري بين السياسي والشعري

محمد عبد الخالق بكري

النور أحمد على تشكيلي سوداني معروف في الاوساط الثقافية السودانية وفي منطقة الخليج حيث يعمل لما يقرب من الثلاثين عاماً  ، له انجازات تشكيلية منذ ان كان طالباً بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية ،  توّجها في  اولى سنين مشواره بالفوز بالميدالية البرونزية في بينالي القاهرة الدولي في اول دورات انعقاده عام 1984م من القرن الماضي . وتوالت انجازاته بعد ذلك حيث نال جوائز عن مشاركات تشكيلية مع دائرة الثقافة بالشارقة ، وجمعية الفنون التشكيلية بالشارقة ايضً حيث كان عضواً نشطاً فيها، وكذلك نال جوائز من المجمع الثقافي بابوظبي.. لكن قليل من الناس يعلم ان النور من اميز شعراء الحداثة العربية في السودان ، فهو مقل ، على الاقل في نشره . ظلت شعريته الفذه ، عدا اعمال قليلة نشرت هنا وهناك ، حبيسة المعرفة المحدودة لاصدقاءه ، واي اصدقاء : د . محمد عبد الحي ، د. عبد الله بولا ، د . يوسف عيدابي ، د.حسن موسي وغيرهم قليل . محمد عبد الحي ، احد رواد مدرسة الغابة والصحراء الشعرية وابرز شعراء الحداثة السودانيين ، قام بنفسه عام 1975 بترجمة احدى قصائد النور ، (هنا ينتهى البحر) ، الى اللغة الانجليزية . صار عبد الحي فيما بعد استاذ الادب المقارن بجامعة الخرطوم ورئيساً لشعبة الترجمة في نفس الجامعة . عبد الله بولا الذى يعد من اميز المفكريين النقديين في السودان وتشكيلى متميز هو الآخر قال ان النور احمد على يعتبر من ركائز حركة الحداثة السودانية في السبعينات . اما د. يوسف عيدابي فقد كان له الفضل في دفع  اعمال النور القليلة التى رأت النور الى المطبعة ، مجبراً الاخير على مفارقة زهده في النشر .
وقعت مؤخراً على مجموعة النور الشعرية (سهو الأتيىّ) ، وازدات دهشتى فيما يتعلق بحظوظ النشر والانتشار . شعر صاف يسري من عينيك الى روحك كصعقة البرق .. فالنور يمتح من نفس معين رفاقه ، رموز الحداثة السودانية الذين استوت مواهبهم بنهاية الستينات واوائل السبعينات : يشترك معهم في الرموز الثقافية التى ركنوا اليها ، منابعهم الثقافية التى انتقبوها ، وفي قاموسهم الشعري  . غير ان له خصلة واحدة ميزته عنهم جميعاً وهى نظرة استراتيجية للواقع الكائن ، جعلته على خلافهم ينأى عن التبشير بمشروع كبير .
على خلاف محمد عبد الحي ، صديقه الذى يكبره بثمانى اعوام ، الذى ساهم في ارساء دعائم مدرسة الغابة والصحراء ، بمشروعه الشعري الرؤيوي الضخم الذى اجترح (سنار) المعروفة بالسلطنة الزرقاء في تاريخ السودان في العصور الوسطى ليجعلها رمزاً للهوية السودانية ، اخذ النور رموزها نحو الباطن ، باطنه كفرد ، يحتفل بتلك الرموز ويغنى لها في حدود فردانيته . وعلى الرغم من ان شعبه لم يغب عن رؤيته الا انه لم يبشر بمدينة فاضلة تحل فيها معضلة الهوية السودانية الشائكة .
تعرض مشروع عبد الحي لنقد جاسر ومحيق في مشروعه الرؤيوي ، هز ركائزه الفكرية وان احترم شعريته . يمثل قمة هذا النقد د. حسن موسي ، الذى لا يخف تقديره الطاغى لشعرية عبد الحي ، لكن يمضى في تفنيد عدم جدواه بل  ضرره في الحوار بل الصراع الدائر حول الهوية السودانية .يرى موسي ان الاصرار على سنار كمرجع للهوية السودانية والقوم الذين اسسوها ، الفونج ، باعتبارهم خلاسيين ، عرب افارقة ، يجرد التكوينات الثقافية والعرقية الاخري في السودان من حق الاختيار ويفرض عليهم خيار وحيد . فسلطنة سنار ذات مرجعية اسلامية ، فماذا نفعل بالسودانيين المسيحيين والوثنيين ؟ بل ماذا نفعل بالمسلمين المستعربين وهم  افارقة اقحاح ؟ اتت الضربة القاضية لمشروع عبد الحي السناري من الواقع السوداني نفسه بانفصال جنوب السودان هذا العام واصطدام مقولة امة الخلاسيين بصخرة الواقع العنيدة . هذا اذا اخذنا في الاعتبار ان اهم الاشارات الثقافية في قصيدة (العودة الى سنار) الشهيرة تتضمن الاشارة الصريحة  الى طقوس قبيلة الدينكا في جنوب السودان .
نحا النور احمد على منحاً مختلفاً في تناول الرمز السناري عن صديقه عبد الحي ، فكما اسلفت لم يلتفت النور الى مشروع بناء الامة وان عشق اجواء السلطنة الزرقاء ووظف رموزها . ويبدو ذلك واضحاً في قصيدته (ديك الجن) التى يهديها لصديقه محمد عبد الحي قائلاً «الى محمد عبد الحي : قارئ الماء وحارس مملكة العمار» والعمار هنا هو الحبر المخترع محلياً الذى كتب به الشيوخ السودانيين مخطوطاتهم في العصر الوسيط ولا يزال مستعملاً حتى اليوم مع الالواح الخشبية  في خلاوي تحفيظ القرأن .  ويلاحظ هنا التناص الصريح مع مفردة عبد الحي  حارس/حراس حيث قال عبد الحي»افتحوا ، حراس سنار ، افتحوا للعائد الليلة ابواب المدينة» . كما نلاحظ التناص المضمر بين مفردة مملكة لدى النور وسلطنة سنار في مشروع عبد الحي ، مع الاحالة الى مملكة الكتابة بدلالة مفردة العمار . لكنها كتابة مخصوصة ترتبط برمز حميم اجترحه عبد الحي .
تبدأ القصيدة ، والتى ربما كانت رثاء لعبد الحي :

شجر الطلح على النهر اضاء
ناشراً كل طيور الظل للنهر رداء
وعلى الشط
مناحاة واشجان حميمة
تغزل الدمع وشاحاً للنساء
وتساقي الرمل والماء شجون الاوفياء
يا صديقي
ثمر الكرخ الذي أحببته
خبأ في أعطافه طعم الدماء
وانثنى ينشر ألحان الهزيمة

يبدو واضحاً ان القصيدة حوار مع عبد الحي تعتمد قاموسه الذى اسسه في البحث عن سنار المدينة/السلطنة والرمز . ففي رحلة عبد الحي نحو سنار يأتى الى ذكر ديك الجن ، بل على وجه الدقة ارض ديك الجن ، حيث يقول في متاهته نحو سنار «صاحبى قل ! ما تري بين شعاب الأرخبيل أرض ديك الجن أم قيس القتيل ؟» وتأتى سيرة الكرخ ايضاً في قصيدة اخري هى السمندل يغني ، والسمندل نفسه من كائنات قصيدة العودة الى سنار . يستحضر النور في هذا المقطع حمص ، ارض ديك الجن ، والكرخ احدى محطات السمندل .  رمزان يحتلان موقعاً رفيعاً في صياغة عبد الحي  لرموزه ، يستحضرهما النور لكن في هيئة اخري غير التى رسمها عبد الحي . فالصورة المسيطرة لدى النور هنا موشحة بالدموع والحزن والشجن وختامها مفعم بالدماء :»ثمرالكرخ الذى احببته خبأ في اعطافه طعم الدماء» . هل هي اشارة رثاء للمشروع السناري؟ هل هي اشارة لتبدد تلك الرموزالكبري التى ارتبطت بتلك المدن وسقوطها في الدماء كما يعكس واقع اليوم ؟
تمضى مقاطع القصيدة في حوار النور مع صديقه الراحل مستحضرة رموزه الى ان يقول في ختامها :
ياصديق الصمت
في البحر الحريق
وعلى النطع بقايا وجه محبوبتك الأولى
بسنار
القديمة
حجرٌ يشهد ميلاد الجريمة

صورة مأساوية هذه الاخيرة ، تتكثف بمفردات الحريق والنطع الذى تتناثر فيه بقايا وجه المحبوبة بارض سنار القديمة . عندما نقابل هذه الصورة مع صور عبد الحي المفعمة بالاحتفالية بسنار حيث تموج الخيول بالحرير والاجراس «حيث بلور الحضور لهب أزرق في عين المياه» ، «ينبوعى الذى يأوى نجومى ، وعرق الذهب المبرق في صخرتى الزرقاء» ، تبدو المسافة شاسعة بين الحلم وما انتهى عليه .

كما اسلفت ، هنالك فارق بين مشروع عبد الحي الشعري ورؤية النور رغم التماسهما نفس المنبع مما لايسع المجال لتفصيله في هذا الحيز . غير انه لابد من اشارة تعكس عمق هذا الفارق . الاعلاء من رمز ما قد  يحمل تكثيف لرؤية الشاعر ومشروعه خاصة عندما يكون الرمز نفسه شخصية شاعر . في تناولهما للتراث السناري تخير كل من عبد الحي والنور شاعر من الحقبة وجعله بؤرة لرؤيته . انتخب عبد الحي الشيخ اسماعيل صاحب الربابة ، وكتب عنه في العودة الى سنار كما كتب عنه في مجموعة قصائده (حياة وموت الشيخ اسماعيل صاحب الربابة) ، اما النور فقد انتخب الشيخ فرح ود تكتوك ومهر مجموعته الشعرية باهداء له . كل من الشيخين شاعر ومتصوف طويل الباع ، عاشا زمن السلطنة الزرقاء وترجم لهما في الطبقات في خصوص الاولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان لمؤلفه محمد النور  بن ضيف الله . وهنالك فارق مبهر بين الشيخين فقد جمع صاحب الربابة بين التصوف والشعر والسلطة الزمنية فقد كان زعيماً سياسياً من نوع ما ، فقد كان لابيه نفوذ بين ملوك سنار وكانت امه اميرة ، ابنة لسلطان مملكة تقلى .   اما الشيخ فرح ود تكتوك فقد عرف بالزهد والبعد عن السلطان . فقد كان اقرب لعامة الشعب السناري وتحفظ الى اليوم اقواله كحكم شعبية موجزة ، ولعلها الاثر السناري الشفاهي الوحيد الذى تناقله الناس عبر القرون ونسب الى شخص بعينه .
يعكس كل من اختيار الشاعرين لرمزه نواة رؤيته ، فرمز الشيخ اسماعيل صاحب  الربابة بفخامته  يعكس السلطة السياسية ويشى بمشروع عبد الحي الذى بالقطع يتضمن السياسي . اما فرح ود تكتوك فقد نأى عن السلطة السياسية فهو صاحب القصيدة الشهيرة «يا واقفاً بباب السلاطين . . . « وفي الجملة كان اقرب الى غمار الناس في سنار وكان شديد التواضع والزهد ، وقد  سأله الناس «من اشعر انت او الشيخ اسماعيل فقال له المزية علىّ لانه فارس ولد فارس وانا فارس ولد الدّرّاق .»
في ظنى ان شغل النور على رمزية فرح ود تكتوك يعكس رؤيتة الفردانية لرمزية  سنار ، فسنار لديه ليس السياسي الذى يحل معضلة الهوية وانما سنار الخلاص الفردى والجماعي الكامن في حكمة الشيخ فرح ود تكتوك فقد وصفه في اهداءه بانه تاج الكلام حارس الديار بالعمار .
كتابات النوراللحمر

محاولة لكتابة نوع كتابي مختلف


إبراهيم اليوسف

صدرت مجموعة نصوص الزميل الفنان والأديب السوداني النورأحمد علي والمعنونة ب" كتابات النوراللحمر-"نصوص"، ضمن سلسلة كتاب دبي الثقافية، والموزع مجاناً مع المجلة-الإصدار83- مايو2013، وضم إهداء من المؤلف، ومقدمة مهمة بعنوان" أنوار" الزمن الجميل" كتبها د. حسن محمد موسى، استهلها بعبارة" النور يا" ضي اللمبة"  بلغة إشراقية شعرية، وإن كان سيتوقف خلالها عند محطات متنوعة في حياة النور، يستذكرها منذ تلك اللحظة التي التقاه فيها، وهويقود المظاهرات في بلده، أو يسيرفي مقدمة مسيرة جنائزية، غيابية، بعيد وفاة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وكيفية قيادته" الجبهة الديمقراطية في كلية الفنون" التي التقاه بها، وكان نجمه يسطع، كأحد النشطاء الفاعلين في الحراك، قبل أن تحدث التحولات الكبرى، وتتم سلسلة الانقلابات التي تودي ببريق الأمل اليساري والديمقراطي الذي كان النور أحد المشتغلين عليه، ومن دون أن  ينسى تبيان سبب تسميته ب"النورالحمر"، تمييزاً له عن" النور اللخدر" حيث كان هناك في الجامعة نوران:  النور محمد حمد و النور أحمد علي. و حقيقة تعد مقدمة د. موسى إحدى مقدمات الكتب الإبداعية، الأكثر وجدانية، و حميمية، وصدقاً، حيث كتبت بلغة أقرب إلى الشعر، بل هي الشعر في مفاصل عديدة منها، لاسيما عتبة الدخول الأولى التي يحلق المقدِّم بها، بل تدفع المتلقي للمشاركة معه، ومع مؤلف الكتاب نفسه، لاسيما في ما إذا كان ممن يلتقطون المفاتيح المشتركة بين هذين العلمين، حيث أن فيه تشخيصاً لخريطة الحراك الثقافي السياسي، في هاتيك المساحة الزمنية، ناهيك عن جرأة المقدم و هو يصرح بصوت عال: مكان النور الحمر، هو طاولة استوديوهات الرسم، لا طاولة الاجتماع السياسي...!

شاب، في مقتبل اللوحة، وعنفوانها، مقتبل القصيدة، وعنفوانها، مقتبل الموقف، وعنفوانه، مقتبل الرؤية،  وعنفوانها، يتحرك في فضاء شسيع يقول: ها أنا، لا يفتأ يعلن عن حلمه، بلا مواربة البتة، كي يستقرىء متابعه شفافية روحه، و طهرانيتها، من الداخل، عن طريق مداخل مهمة إلى شِفرة الهاوية الشخصية، بملامحها الكثيرة: الإباء، التفاني، رفع لواء الجمال-عالياً- من دون أية مساومة عليه، وهو ما يكمن وراء ابتلاع شِفرات غربته، كي تكون العين بوابة للنفس، لا يتلكأ العرفانيُّ عن قراءة كل هاتيك الرموز الصوفية الهائلة، من خلال تتبع نور الحبر، في إلكترونه، وألوانه، حيث ألوان اللوحة، كما ألوان الكتابة أدواته التي يستعين بها.

  وإذا كنا قد توقفنا عند هذه المقدمة، المهمة، فذلك لأنها تشكل مدخلاً جد َّمهم، إلى أحد الكتب الأكثر أهمية، من بين سلسلة إصدارات مجلة دبي، بل ومن بين ما طبع خلال الفترة الزمانية الأخيرة، لاسيما وأن كاتب المقدمة يقدم بوصلة مهمة إلى خريطة الكتاب، بل وقبلها إلى عالم النورالحمر،الفنان، الشاعر، الناص، الأديب، الإعلامي،كي نتقرّى أرومة انطلاقته الفكرية، غنى عنوانه الثقافي الأول الذي انطلق منه، قبل أن يصل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، ويواصل عمله في القسم الفني في جريدة الخليج التي تفوح برائحة أصابعه، وزملائه منذ ثلاثة عقود، ولم يحل وعيد النوبة القلبية، أو نذير الشلل النصفي الذي تعرض له خلال الأشهر الماضية من العودة إلى عمله، مستنداً إلى عصاه، المعدنية، تعينه على بَوصلة الطريق بين أسره المتعددة: بيته الصغير، ومقرّ عمله، وفضائه الأوسع، حيث تصل إشاراته، إلى متلقيه، عبرخطوطه الدافئة، والحانية، وهي تترجم ذبذبات روحه، وكهرباءها، في لوحة، أوعبارة.

نصوص تشبه الروح

نصوص تستنسخ الحياة:


ومادمنا في حضرة كتاب محدد للنور اللحمر، جاء بعيد كتابين إبداعيين، سابقين، له، وهما: سهو الآتي"2004- و" سبابة وقافلة وترجمتها محاولة لتصريف فعل ماض2008، فإنه لحري بالإشارة إلى مسألة مهمة، لابد من أن يعرفها المتلقي، وهي أن الكتاب ضم بين دفتيه أربعين نصاً، عنونها بطريقة مختلفة: في مديح ..الحرج- السكون- فتش ..فتش تاه- أمي اسمها حوة بت المبروك- كلاب رؤوف علوان- هذا طائر يبدع فضاءه-الجهل حين يحمل على الطرب- الموت الحياة- أبواب- أعلل النفس-حجر وكفى- "المشي في سيرة الألف"أ" –شجرة الغرم- سلطة البياض سلطة السواد- هيئة الحرف صورة البياض- ..ومشى البيت- إنه يحمل ليل وطني- محمد محمد مدني- في حضور محمد موسى عبدالله- الطوائف- من رسائل ال"ع" "أ" جيوشي من الأبجدية" –مدخل رسائل ال"ع" " ب/ اسمي" –مدينة الله- العلامات-/2- الفاصلة"،"- العلامات- شجن وابن بجدته- نفاج- شجون الحديث- "هل أنت يا وطني وطن؟"-الحزن- عزيزي عبدالواحد كمبال- المدينة كاف- التشكيل بخامة الجسد.. كرة القدم مثالاً- أفاطم- المترو- مالك وهبة/ معادلة الموت بالحياة- المفهوم والمتذوق- نشرة أحوال الجسد- حكم شرقية آسيوية"، وإن هذه النصوص- برمتها- كانت عبارة عن رسائل متبادلة بينه وأصدقائه ومنهم: د. حسن موسى وعبدالله بولا ومازن مصطفى ومحمد عبدالخالق وعادل عثمان ودكتور إيمان أحمد، وآخرون، وقد يذكر أسماءهم، أو يغفلها،  كما أنه أغفل نصوص رسائل هؤلاء-ربما لأن نشرها هو من حقوق أصحابها-أو ربما كان ذلك لاعتبارات فنية، حيث استطاعت النصوص أن تتحرر من إطار"أدب المراسلات"، لتكون نوعاً آخر، متحرراً، حيث هي أقرب إلى عالم النص المفتوح، وإن كانت حميمية حضور ظلال الأصدقاء، شركاء النور، في صناعة عوالم النص، يمنح النص نكهة فريدة، قد يستحق عليها أن ينال منزلة الريادة،  في كتابة أدب من هذا النوع،  له خصوصياته الإبداعية حقاً.

من يقرأ نصوص "كتابات النوراللحمر"لابدَّ سيلاحظ عمق تجربة وثقافة الرجل، حيث حضور الأسطورة، والتراث، والملحمة، والتاريخ، والأمكنة، وأسماء الأعلام، المتصوفة منهم، كما المفكرون، بل والساسة، كي يجاور الشعر السرد، ويتداخلا، في إهاب نص مفتوح على الدهشة، تحضر فيه الصورة الشعرية، كما تحضر الجملة التي تكتب وفق إيقاع روح صاحبها، حيث قوامها المفردة التي يتم توظيفها، بطريقة مختلفة، معتمدة على ذلك الزخم الهائل من إشاراتها، ودلالتها، لا تذكر بأي استخدام سابق لها، يقول في نص" حجر وكفى":

قنديل أخضر في آخر طرقات العتمة، دلني علي
كان التلو عالياً، والتلفت عالياً، . والنشيد عالياً،  النشيد عطر الروح
كنت وحيداً، وقنديل أخضر، وخلفي وحدتي تغني
كان النشيد مالحاً/ وكان القنديل مالحاً
ألقيت على قنديلي الأخضر السلام، وسرت خلفه
قلت: سأتدبر النشيد
أعرف العتمة. خبرتها زمناً، حين كان النخل أبجدية، والعشب قرطاساً
وكنت مداد الوجع الممتد، من أول مباهج اللون، وحتى آخر مباهج الأبجدية
تدربت حواسي، وخبرت كل مسارات الغلو والولوغ
الخوف فاكهة، وحين يستدرج الخلاء إلى فخاخه
أستدرج ظلي، أحادثه برفق، ويعلو التلو
أقرأ على متنه المشبع بالعتمة ضجراً وخوفاً
أتمهل في خطوي/ يسرع ظلي في خطوه

واضح، هنا، أن الناص يلجأ إلى التكثيف، والاختزال، واللمح الشعري، بل والفجاءة، والإدهاش، والصورة المستفزة، من خلال كهرباء شعريتها، وليس غريباً عليه ذلك، فهو الشاعر، ذو الحضور في عالم قصيدة النثر، ناهيك عن أنه الفنان التشكيلي البارز ليس على رقعة مكانه الأول، بل وعلى  مساحة جد واسعة، وبدهيٌّ، أن تقنية التشكيلي في رسم لوحته، تفرض سطوتها وهويمارس الرسم بالكلمات، وإن كان النص سيقدم نفسه، بأكثر من شكل توتري، يقول في نص" أعلل النفس..: الصحراء كتاب التيه، هل منكم من يقرا الرمل؟، هذا الغناء المالح..، صديق السموم، والمدلجين. الرمل المبرأ من خديعة السراب، الذاهب في انتحال الحلم في بلاغة المدى. الرمل المفرد في صيغة الجمع، الذاهب في محوك، هو لا يخدعك..، ولكنه يشي للشمس فعل الذهب..
غربال الماء وفخاخ الخرج
أنت لاتعبرالرمل مرتين..الرمل المتحرك من ضفاف الكذب، إلى ضفاف كذب آخر. الرمل مفرد كامل الهيئة، أنيق البلورة، وجمع في صيغة المفرد.

 وإذا كان الشاعر، يستحضر-هنا- أدونيس، من خلال الإشارة إلى عنوان إحدى مجموعاته الشعرية- وهو ذودلالة ورحب- فإنه يقتبس مفردة الرَّمل، في إطار تناول مفردات المكان، سليمبركاتياً، حيث كلا الشاعرين من أسرته الروحية، إلى جانب آخرين، من أسرته الكبيرة هذه، حتى وإن غدا بركات-نفسه- وإبراهيم محمود وآخرون، خارج دفتي الكتاب، لاعتبارات تتعلق بمقتضى مقام الحال. بيد أن رحابة فضاء الشاعر، وخصوبة أخيلته، وبراعته في التعامل مع أسِّ بناء الصورة، وتحديد موقعها ضمن عبارة النص، بل وغنى معجمه اللغوي، وجمهرات حشود مفردات التي تميل إلى الاشتقاق، وتسجل وئامها المختلف، لتعد ُّ من بعض علامات نص النور، وروحه، متلاطمة البحار، والقارات، والفضاءات، والكواكب الجارية في أوردة القلب التي ستظل في مواجهة العطب والخراب.

عود على بدء:


إن كتابات النوراللحمر، تؤسس في حقيقتها لجنس أدبي جديد، حيث فيه الموقف الجمالي من الناص للعالم، والأمكنة، والأصدقاء، حيث يلتقي عالما السرد، والشعر، في آن معاً، كما أن التشكيل والتقطيع السينمائي، والإيماضة، والنص المفتوح، بل المشهد الروائي، والنص القصصي، والمسرحي تتواءم معاً، كي نكون أمام نص مختلف، له خصوصيته، فهو ليس أحد هذه الأشكال الأدبية، وحدها، وهوأكثرمن كلها، لاسيما في ما إذا وضعنا- في البال- المشارك الآخرفي النص، الذي حفز اللحظة الإبداعية، بل ويضاف إلى كل هؤلاء قارىء النص، ذي الأرومة الإلكترونية، التفاعلية، والتي يتوزعها عالما: الأدب التفاعلي، من جهة، والنص التقليدي، في وعائه الورقي من جهة، أخرى، يقول في نص بعنوان" الجهل حين يحمل على الطرب"/
"أوقفني في موقف النار، وقال لي: إن رأيت النار، فقع فيها لاتهرب منها، لأنك إن هربت منها طلبتك فأحرقتك"  ص 66
وإذاكان النوعلي، يقدم نصوصه-هذه- كجزء من مشروع يشتغل عليه، وسيلاقي صدى كبيراً، عندما يتاح له أن يكون بين يدي متلقيه، فإن هذه النصوص، لابد ستكون حافزاً لنوع أدبي جديد- كما يخيل لصاحب وجهة نظرهذه القراءة- يجد له مكاناً في المكتبة الأدبية الإنسانية، عامة..!


الاثنين، 27 مايو 2013

بدني مستوطنة للنازلة

  1. بدني مستوطنة للنازلة

الصديقة النبيلة إيمان، وصلتني رسالتك، وانا رهن الاعتكاف، كمن ينتظر وحياً
كنت اتأمل خارطة جسدي، واتسلل الي اوراقه الخاصة؛ ذلك ان ما بيننا من عشرة مديدة، يسمح لي بهذا التلصص.وهو قد يكتشف تلصصي، ولكنه يغض الطرف ويتغابي عن ما عرف.
الصديقة العزيزة؛ عندما كتبت « امشي علي قدم واصدقاء» تبين لي ان ذلك قد تم تحت إغراء تواتر الخبرات في حقل العمل الاجتماعي من امكانية منازلة الاستعمار، وامكانية هزيمته، تماماً ،كما يحدث في حقل التاريخ السياسي
ولكن ، وبعد ان صَحِبت الدكتور Tomas الهندي الصديق والخبيرز بجغرافية الجسد وتشريحه. اقول يا إيمان بعد ان خبرته لما يقرب من الثلاثة اشهر، وهو يعكف بحنوٍ علي جسدي وصديقي، تبين لي ان المنازعة التي خضتها مع الموت لم تكن بغيتها الاستعمار، بعد ان افشلت مخططه لافساد حقي في الحياة، وهكذا فقد استجبت لتضليل النازلة.
يا إيمان لقد كان ما اصاب جسدي وصديقي، لم يكن استعماراً كما توهمت. بل كان استيطاناً بالمعني الدقيق للاستيطان. لحظت ذلك من طرق المقاربة والاساليب التي يتبعها الصديق الكتور توماس. فهو يبدأ في ملاحقة آثار النازلة في كل مفصل وكل عضلة مهما صغرت. حتي انني اوشكت ان اصبح خبيراً في علم التشريح. فالصديق توماس يلاحق كل الاحتمالات التي قد ترتكبها العلة لتحقيق اهدافها الاستراتيجية. فهو لا  يلاحق ليعالج ولكنه يشركني في معرفة خططه في الملاحفة. وهنا تنبهت ايها الصديقة الي ان الاستيطان له اهداف مختلفة واستراتيجية مغايرة. فهو يعمد بدأً الي طمس هوية المستوطنة ومحو تاريخها وإفساد كامل ارشيفها الامر الذي يعني انتسابها الي غابة البله مما يعني صعوبة الاستعانة بذلك الارشيف مطلقاً. كماإن اعادة تأهيلها يعني تأسيس ارشيف جديد يلبي حاجات الجسد الي قوي تلك المستوطنة. هذا يعني اعادة تخليق كامل  ما خرب في تلك المستوطنات. كل ذلك يضعني في مواجهات يومية وعنيفة مع صديقي جسدي. الجسد الذي صحبته وصحبني ما يربو علي الستين عاماً، فخبرته وخبرني. اصبح يستوطنني الان حتي اصبح تعارفنا فيه مشقة وعسر.كل عضو مُسْتُوطنً لا يستجيب كسابق عهده معي، وانا بدوري انكر تلكؤه ، واضجر. ولكنني اتقبله بسماحة وإحسان؛ كونه احسن اليّ كثيراً . كما انني اعرف معاناة المُسْتَوْطَنين
الامر مضجر يا إيمان، ولكنني اتبع خطتك في الرحمة والاشفاق، كونه يستحق هكذا معاملة، فقد خبرته صديقاً مضيافاً كريماً . ولكنه يعيش محنة وانا اعيشها معه مشاركة كما شاركني الكثير من مباهج الحياة زمن العافية. كما عليناان نتعاون  رغم  الكلفة الباهظة لهذا التعاون؛ حت نعبر يداً بيد الي شواطئ الحياة ؛ والتي قربت كثيراً. ولكن علينا خوض النزاع من اجل الحياة؛ والتي هي حق. وسافعل ذلك مابقي ماء في آخر خلية في جسدي صديقي. وساكتب وارسم واقرأ وفق نداء من تأليفي « اكتبوا تصحوا»
تقبلي مودتي