زمن عبدالكريم
إذا رأيت ، في شوارع الخرطوم، كهلاً،تشابهت قامته، والالف ، وسط قبيل الابجدية، لا تشك لحظة انه عبد الكريم.
إذا سمعت كهلاً إذا ضحك، ضحك كله، بدأً من القليل من الشعر الذي يتوج رأسه، وحتي اخمص قدميه، تأكد انك تسمع ضحك عبد الكريم.
إذا حضرت مجلساً، وفيه شخص يلتزم السكوت حتي تخاله لا يعرف الكلام، وهو يعرف ما فوق الكلام وما تحته،فتحسس ما كان يقال من كلام؟ فقد يكون ذلك الشخص عبد الكريم!
فعبد الكريم رجل قليل الكلام .. كثيره؟!
جرب ان يهاجر مرة واحدة في حياته. حدث ذلك في العام 1983، الي دولة الامارات العربية المتحدة، بوظيفة محترمة بمقاييس ذلك الزمان ، ذات عائد جيد في قطاع المال، ولم تدم تلك الهجرة سوي اربعة وعشرون ساعة (ليس هناك خطأ في التمييز؟!!)
فعبد الكريم رجل وطنه ليس خارجه!
وعبد الكريم رجل قليل الاصدقاء ، كثيرهم!!
عبد الكريم صياد ماهر، يخرج من منزله، فجر كل يوم، تماماً كما تفعل العصافير، بحثاً عن كلام واصدقاء، وعن ما يستر الحال من رزق العيال، ويعود مساءً متأبطاً كتباً وكلاماً وما تيسر مما يستر الحال من رزق العيال .وضحكته الصافية عنوان رضي ، وفاتحة لكتاب الحياة.
عبد الكريم منذور للعمل العام بوظيفة قارئ، وفيها يعرف. ويعرف انه يعرف.
«لا يستطيع أن يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل ولا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، وإنما بقرب ذلك تقريباً»
يذكر الفتى أنه قرأ ذلك على معرفة استاذه الأول سعد أمير طه، وهو بحدود الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، ويذكر الفتى أن الكلمات أعلاه هي المدخل لكتاب الأيام، والذي كان الفتى يحفظه على مسند قلبه، إن لم تكن النازلة التي أصاب »الكورتكس« قد أثرت على الحافظة ــ إن لم يكن ذلك قد حدث ـ ، فإن هذا المدخل يصلح مدخلاً لزمن عبدالكريم، والذي يشك الشيخ الآن أن زمن عبدالكريم قد بدأ لحظة عرف الفتى القراءة وقت أن انشأ مكتبة من صناديق الشاي، والتي شكلها له النجار أحمد القرشي المراسل بمكتب تفتيش الماطوري، قرية أم هجيليجة، عندما كان الفتى يعمل مساعداً لذلك المراسلة، في ذلك المكتب في إجازته الصيفية في ذلك الزمن البعيد، بدأ زمن عبدالكريم. هكذا يقرر الشيخ.
ولكن الفتى وقتها يستطيع أن يقرب ذلك، وأقرب الظن أن ذلك حدث في العام ٢٧٩١، والفتى حديث التخرج، وقد أوقعه صديقه طبطب في عشق عائلته وعشق بورتسودان، في ذلك الوقت الغائم، صحبه صديقه أحمد ليعرفه على بعض كائنات ذلك الفضاء البورتسوداني، مجموعة من فتيان بورتسودان يعملون في مهن مختلفة بالخرطوم «عزابة».
في حي الحلة الجديدة، باب حديد بلون أخضر ٦٤ حين زرته، كان لم يتعلم الإغلاق بعد. حين تدلف، حوش ليس به ما يميزه عن بقية حيشان السودان، إلى اليمين صالة بعرض غرفتين، مجموعة من الشباب يلعبون الورق، إلى يمين اليمين باب يفضي إلى غرفة.
للفتى حساسية عجيبة تجاه الكتب، حتى أنه عندما يدخل بيتاً ولا يجد لها أثراً، يتساوى عنده البيت والمقبرة، قادت حساسيتة عينيه إلى الباب المشرع،..حقيبة كبيرة عليها مجموعة من الكتب، كان الفتى في حضرة الكتب لا يعرف اللباقة، بعد لوازم الزيارة دلف الفتى مباشرة حيث الكتب، وهناك وجد أصدقاءه الحقيقيين، وجد محمد الماغوط ،وأدونيس ووجد إدوارد سعيد، صاح الفتى دون أن يأبه لرد فعل الكائنات البورتسودانية «من في هذا البيت يقرأ أدونيس والماغوط وإدواردسعيد؟» رد أحدهم »لا يقرأ احد من هذا البيت غير عبدالكريم؟».
وهنا اتصل عن زمن عبدالكريم الذي بدأ هناك، حيث «هناك»: هو زمن ومكان القراءة بزمن عبدالكريم الذي يتنفس قراءة ويمشي قراءه ويأكل قراءة حتى خيل للفتى أن مساحة الجنس عنده قراءة.
تخيل الفتى أن أحدهم سيسأل سؤال البداهة، كيف عرفت عبدالكريم؟ وتبدو بداهة السؤال حين تحاول الإجابة على سؤال مشابه، كيف ومتى تعرفت إلى جسدك؟ حين الإجابة على سؤال كهذا يمكن الإجابة على سؤال كيف عرفت عبدالكريم.
زمن عبدالكريم: زمن يتشكل داخل جسد الزمن العام، ولكنه مغاير له في الاتجاه وفي الحركة، حيث هو زمن مناقض ومناقد لتيار الزمن العام، زمن يراقب ما يفرزه الزمن العام يتحاشى الفاسد منه ويمسك جيداً بعلامات الإيجاب.
زمن عبدالكريم، قرأنا زمن الشعرالذي لأدونيس وقرأنا الثابت والمتحول والنقد المر الذي وجهه له الصحفي المصري صلاح عيسى وقرأنا المسرح والمرايا و«ماء لحصان العائلة» لشوقي ابو شقرة، في زمن عبدالكريم قرأنا الاستشراق الذي لإدوارد سعيد طازجاً من فم المطابع الإنجليزية، وقرأنا «قصة حب» الذي للأمريكي أريك سيغل، وقتها عرفنا أن هانك صفراً يمكن أن يكون غالباً على صفر آخر، حيث البطل والبطلبة يشاهدان لعبة كرة القدم وعندما سأل أحد المشاهدين متأخري القدوم، أجاب البطل «أن فريقنا متقدم على الفريق الآخر بنتيجة صفر ــ صفر.»
في زمن عبدالكريم قرأنا جوناثان لفنجستون سيغل الذي لرتشارد باخ ورسل منسون مصوراً، وقرأنا «الرسولة بشعرها الطويل حتي البحيرات لانسي الحاج.
في زمن عبدالكريم كان أدونيس يحتل مساحة كبيرة في فضاء الثقافة العربية وكانت «مواقف» قريبة من قلوبنا، وكان أدونيس كثير النقل والإشارات للسيد محمد بن عبدالجبار النفري، كأن أدونيس يشير إلى شيح ثقافي عالي السطوة، ولكن من هو هذا النفري؟ ما كان مثل هذا السؤال في زمن عبدالكريم يطرح عبثاً، ألحقنا ذلك السؤال ببحث دؤوب عن »المواقف والمخاطبات« والغريب أن أدونيس لم يذكر له كتاباً آخر. وفي مكتبة أم درمان الأهلية يوجد في سجلاتها الكتاب، ولكن لا وجود فعلي له، ثم عثرنا على نسخة في مكتبة الشنقيطي بجامعة الخرطوم، حيث كانت لنا معه مجالسات متميزة، خرجنا منها بما خف وغلى من المواقف والمخاطبات، ولكن كل ذلك لم يرو غليل قراء زمن عبدالكريم، حيث أن امتلاك نسخة منه أصبح هاجساً.
قمنا بمكاتبة مجلة «مواقف» التي لأدونيس على أمل أن نستدل على أثر له، ولكن لأن مجلة «مواقف» كانت انقطاعاتها أكثر من صدوراتها، وقد وافقت كتاباتنا لها إحدى تلك الانقطاعات، ولكن ما لا نعرفه كيف تحول بريد «مواقف» إلى بريد مجلة «الشبكة» ذائعة الصيت في زمن عبد الكريم، والتي لم تكن علاقتنا بها حسنة.
ولكن المدهش في زمن عبدالكريم أن أحد الجغرافيين السوريين وكان يعمل وقتها بمجلة «الفيصل» السعودية عثر على تساؤلنا بمجلة «الشبكة»، وكاتبنا على عنوان عبدالكريم قائلاً عرفت أن هذا التساؤل تائه، ذلك أن من يسأل عن النفري فرضاً لن يكون من قراء الشبكة.
وتفضل مشكوراً بتزويدنا بالسيرة الكاملة لكتاب المواقف والمخاطبات بدءاً من طبعته الأولى بالقاهرة ٦٣٩١ وحتى آخر طبعة بيروتية، حيث فصلت المواقف لوحدها في كتاب، وكذلك المخاطبات.
كان لعبدالكريم حاسة مبهرة في ملاحقة الكتب، وفي أحد صيوف أوائل السبعينات جاءني عبدالكريم بمنزلنا بحري ليخبرني بأنه وبعد معافرة عثر على نسخة من كتاب المواقف والمخاطبات بمعرض الكتاب القاهرة بنادي ناصر الثقافي بالخرطوم، ولكن بقالي الكتب بذلك المعرض لا يعرفون عن النفري أو عن كتابه، ولكن أنت وحظك عليك الاجتهاد، وقد كان، فامتلكنا نسخة من يتيم النفري ذلك، الذي شغل ناس سبعينات القرن الماضي وما زال.
كان من عاداتنا نحن مصاحبي زمن عبدالكريم أنه حين العثور على عنوان يستحق أن يقتنى، فإننا نشتري نسخاً لنا ولأصدقائنا، بل ومن عاداتنا التي داومنا عليها أننا نخصص يوم الجمعة من كل أسبوع للطواف على مكتبات العاصمة وأرصفة الكتب بحثاً عن الوافد من الكتب.
عبدالكريم عين نفسه بوظيفة قارئ بدوام كامل، وما فاض عن وقته يعمل فيه بوظيفة مدير مبيعات في أحد المصانع الوطنية، فالرجليحتاز درجة الماجستير في المحاسبة، حيث يتمكن من تدبير عيش أسرته.
صحب عبدالكريم ــ عبدالكريم ميرغني منذ العام ٤٨٩١، ولمدة خمشة عشر عاماً، ويوماً حتى رحيله حيث نشأة إلفة عززتها القراءة، وكما يختار عبدالكريم كتبه بعناية كذلك كان يختار البشر الذين يصاحبهم، وهكذا أصبح صديقاً لعبدالكريم ميرغني ولعائلته كلها.
وحين التقى Elena Vezzadini،والتي كانت تعد رسالة عن الرق في إفريقيا، وفي مرورها على تاريخ السودان باعتباره أحد مراكز تجارة الرقيق في إفريقيا، وهناك تعرفت مصادفة على ثورة ٤2٩١ السودانية، أنجزت إلينا رسالة الماجستير عن الرق، وأكملت رسالة الدكتوراه عن الثورة ٤٢٩١ في كتابها الموسوم
1924 THE
Revolution
Hegemony, Resistance, and Nationalism in the Colonial Sudan، والتي تعتبرها إلينا أحد ثورات
إفريقيا الكبرى، والتي لو قيض لها النجاح، لتقدمت كل حركات التحرر الإفريقي، ولتغير حسب رسالتها وجه ووجهة تاريخ إفريقيا السياسي والاجتماعي. أقول حين التقاها عبدالكريم وحاورها في منهجها في دراسة تلك الثورة سألته إن كان تخصصه تاريخ، وجحظت عيناها دهشة حين عرفت أنه رجل أرقام وقارئ باهتمام، وما يزال هذا الكتاب الفتح بانتظار من يترجمه كفاتحة لإعادة كتابة تاريخنا الوطني.إلينا تقول في آخر كتابها ****
..................
ثلاثين عاماً كان انقطاعاً مرعباً في زمن عبدالكريم، وحين هاتفني من أبوظبي، وأنه في طريقه إلي موقف حافلات الشارقة، قلت في نفسي، أن المجاز الذي أنقذ أبا الطيب عند وفاة خولة أخت سيف الدولة، والتي أشبع أنه كان علي علاقة حب بها وبسبب هذا الحب كان ذلك الانقطاع الذي حدثت أثناءه الوفاة وإن «شرقت بالدمع حتى كاد يشرف بي» لا شك منقذي هي مكيدة نالها المتنبي مبتغاه، ولكن هيئات! إن بلاغة الدمع وبلاغة الأحضان والتوكل على علة الكورتكس هي التي نابت عن بلاغة المجاز اللغوي الذي خذلني على الرغم ثراء أرشيف مثل تلك المواقف شكراً للدمع وللاحضان.
أدعو إلى اكتشاف مثل هذه البلاغات، فقد تحتاجها ذات عجز لغوي.
مرة حضر عبدالكريم محاضرة عن «طقوس القراءة»، قدمها سوداني مقيم في قطر، وكان ضمن حضورها مصري مقيم في السوداني، ونهض عبدالكريم وقد أطربته الفكرة، فقال «أنا عبدالكريم سوداني مقيم في السودان» الأمر الذي أثار لغطاً في القاعة.
ولكنني كلما سمعت هذه الملحة أضحك. كان المحاضر يتحدث عن عاداته القراءية ذلك أن عبدالكريم أراد أن يقول «أنا مواطن سوداني مقيم في السوداني، ولكنى قادر على الفرز بين «العادة والطقس» في مفهومه الانثروبولوجي.
عبدالكريم رجل أمين لوظيفته التي يجيدها «قارئ» وأمين لزمنه يحدثك عن قراءاته وهو في ذلك الوطن الجاف المتلان وأنت المقيم في وهم البترودولار، بعض الكتب وبعض الكتاب لم تسمع عنهم يصيبك الخجل، وبعضهم سمعت عنه ولكنك لم تسمع عن آخر إصداراته.
***** «In conclusion, this thesis aimed at reopening the question of the 1924 revolution, to bring new elements to light, but also to show how there is still much to be said, done, and written, to deepen our knowledge. The real hope of this work is not so much to have provided answers, but to have raised more questions. Only in this way is it possible to further research and broaden our understanding about this important episode of Sudanese history, in which for a moment differences among “‘abid” and “Arabs”, workers and educated, were “forgotten” and people were working together to build a nation representative of the whole.
The choices of the colonial Government made as a consequence of the 1924 revolution shaped the future history of the country, and in fact shaped it in such a way, that the perception of the past itself was affected. This is why, in the lost memory of the 1924 revolution, in the middle of the opacity of the sources dominated by power, only the reading of documents in a different way, trying to find alternative voices which break the dominant narrative, can finally bring us beyond the dominant perceptions of this revolution, and make us listen to what history has to tell us».
The 1924 Revolution /pv 426
إذا رأيت ، في شوارع الخرطوم، كهلاً،تشابهت قامته، والالف ، وسط قبيل الابجدية، لا تشك لحظة انه عبد الكريم.
إذا سمعت كهلاً إذا ضحك، ضحك كله، بدأً من القليل من الشعر الذي يتوج رأسه، وحتي اخمص قدميه، تأكد انك تسمع ضحك عبد الكريم.
إذا حضرت مجلساً، وفيه شخص يلتزم السكوت حتي تخاله لا يعرف الكلام، وهو يعرف ما فوق الكلام وما تحته،فتحسس ما كان يقال من كلام؟ فقد يكون ذلك الشخص عبد الكريم!
فعبد الكريم رجل قليل الكلام .. كثيره؟!
جرب ان يهاجر مرة واحدة في حياته. حدث ذلك في العام 1983، الي دولة الامارات العربية المتحدة، بوظيفة محترمة بمقاييس ذلك الزمان ، ذات عائد جيد في قطاع المال، ولم تدم تلك الهجرة سوي اربعة وعشرون ساعة (ليس هناك خطأ في التمييز؟!!)
فعبد الكريم رجل وطنه ليس خارجه!
وعبد الكريم رجل قليل الاصدقاء ، كثيرهم!!
عبد الكريم صياد ماهر، يخرج من منزله، فجر كل يوم، تماماً كما تفعل العصافير، بحثاً عن كلام واصدقاء، وعن ما يستر الحال من رزق العيال، ويعود مساءً متأبطاً كتباً وكلاماً وما تيسر مما يستر الحال من رزق العيال .وضحكته الصافية عنوان رضي ، وفاتحة لكتاب الحياة.
عبد الكريم منذور للعمل العام بوظيفة قارئ، وفيها يعرف. ويعرف انه يعرف.
«لا يستطيع أن يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل ولا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، وإنما بقرب ذلك تقريباً»
يذكر الفتى أنه قرأ ذلك على معرفة استاذه الأول سعد أمير طه، وهو بحدود الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، ويذكر الفتى أن الكلمات أعلاه هي المدخل لكتاب الأيام، والذي كان الفتى يحفظه على مسند قلبه، إن لم تكن النازلة التي أصاب »الكورتكس« قد أثرت على الحافظة ــ إن لم يكن ذلك قد حدث ـ ، فإن هذا المدخل يصلح مدخلاً لزمن عبدالكريم، والذي يشك الشيخ الآن أن زمن عبدالكريم قد بدأ لحظة عرف الفتى القراءة وقت أن انشأ مكتبة من صناديق الشاي، والتي شكلها له النجار أحمد القرشي المراسل بمكتب تفتيش الماطوري، قرية أم هجيليجة، عندما كان الفتى يعمل مساعداً لذلك المراسلة، في ذلك المكتب في إجازته الصيفية في ذلك الزمن البعيد، بدأ زمن عبدالكريم. هكذا يقرر الشيخ.
ولكن الفتى وقتها يستطيع أن يقرب ذلك، وأقرب الظن أن ذلك حدث في العام ٢٧٩١، والفتى حديث التخرج، وقد أوقعه صديقه طبطب في عشق عائلته وعشق بورتسودان، في ذلك الوقت الغائم، صحبه صديقه أحمد ليعرفه على بعض كائنات ذلك الفضاء البورتسوداني، مجموعة من فتيان بورتسودان يعملون في مهن مختلفة بالخرطوم «عزابة».
في حي الحلة الجديدة، باب حديد بلون أخضر ٦٤ حين زرته، كان لم يتعلم الإغلاق بعد. حين تدلف، حوش ليس به ما يميزه عن بقية حيشان السودان، إلى اليمين صالة بعرض غرفتين، مجموعة من الشباب يلعبون الورق، إلى يمين اليمين باب يفضي إلى غرفة.
للفتى حساسية عجيبة تجاه الكتب، حتى أنه عندما يدخل بيتاً ولا يجد لها أثراً، يتساوى عنده البيت والمقبرة، قادت حساسيتة عينيه إلى الباب المشرع،..حقيبة كبيرة عليها مجموعة من الكتب، كان الفتى في حضرة الكتب لا يعرف اللباقة، بعد لوازم الزيارة دلف الفتى مباشرة حيث الكتب، وهناك وجد أصدقاءه الحقيقيين، وجد محمد الماغوط ،وأدونيس ووجد إدوارد سعيد، صاح الفتى دون أن يأبه لرد فعل الكائنات البورتسودانية «من في هذا البيت يقرأ أدونيس والماغوط وإدواردسعيد؟» رد أحدهم »لا يقرأ احد من هذا البيت غير عبدالكريم؟».
وهنا اتصل عن زمن عبدالكريم الذي بدأ هناك، حيث «هناك»: هو زمن ومكان القراءة بزمن عبدالكريم الذي يتنفس قراءة ويمشي قراءه ويأكل قراءة حتى خيل للفتى أن مساحة الجنس عنده قراءة.
تخيل الفتى أن أحدهم سيسأل سؤال البداهة، كيف عرفت عبدالكريم؟ وتبدو بداهة السؤال حين تحاول الإجابة على سؤال مشابه، كيف ومتى تعرفت إلى جسدك؟ حين الإجابة على سؤال كهذا يمكن الإجابة على سؤال كيف عرفت عبدالكريم.
زمن عبدالكريم: زمن يتشكل داخل جسد الزمن العام، ولكنه مغاير له في الاتجاه وفي الحركة، حيث هو زمن مناقض ومناقد لتيار الزمن العام، زمن يراقب ما يفرزه الزمن العام يتحاشى الفاسد منه ويمسك جيداً بعلامات الإيجاب.
زمن عبدالكريم، قرأنا زمن الشعرالذي لأدونيس وقرأنا الثابت والمتحول والنقد المر الذي وجهه له الصحفي المصري صلاح عيسى وقرأنا المسرح والمرايا و«ماء لحصان العائلة» لشوقي ابو شقرة، في زمن عبدالكريم قرأنا الاستشراق الذي لإدوارد سعيد طازجاً من فم المطابع الإنجليزية، وقرأنا «قصة حب» الذي للأمريكي أريك سيغل، وقتها عرفنا أن هانك صفراً يمكن أن يكون غالباً على صفر آخر، حيث البطل والبطلبة يشاهدان لعبة كرة القدم وعندما سأل أحد المشاهدين متأخري القدوم، أجاب البطل «أن فريقنا متقدم على الفريق الآخر بنتيجة صفر ــ صفر.»
في زمن عبدالكريم قرأنا جوناثان لفنجستون سيغل الذي لرتشارد باخ ورسل منسون مصوراً، وقرأنا «الرسولة بشعرها الطويل حتي البحيرات لانسي الحاج.
في زمن عبدالكريم كان أدونيس يحتل مساحة كبيرة في فضاء الثقافة العربية وكانت «مواقف» قريبة من قلوبنا، وكان أدونيس كثير النقل والإشارات للسيد محمد بن عبدالجبار النفري، كأن أدونيس يشير إلى شيح ثقافي عالي السطوة، ولكن من هو هذا النفري؟ ما كان مثل هذا السؤال في زمن عبدالكريم يطرح عبثاً، ألحقنا ذلك السؤال ببحث دؤوب عن »المواقف والمخاطبات« والغريب أن أدونيس لم يذكر له كتاباً آخر. وفي مكتبة أم درمان الأهلية يوجد في سجلاتها الكتاب، ولكن لا وجود فعلي له، ثم عثرنا على نسخة في مكتبة الشنقيطي بجامعة الخرطوم، حيث كانت لنا معه مجالسات متميزة، خرجنا منها بما خف وغلى من المواقف والمخاطبات، ولكن كل ذلك لم يرو غليل قراء زمن عبدالكريم، حيث أن امتلاك نسخة منه أصبح هاجساً.
قمنا بمكاتبة مجلة «مواقف» التي لأدونيس على أمل أن نستدل على أثر له، ولكن لأن مجلة «مواقف» كانت انقطاعاتها أكثر من صدوراتها، وقد وافقت كتاباتنا لها إحدى تلك الانقطاعات، ولكن ما لا نعرفه كيف تحول بريد «مواقف» إلى بريد مجلة «الشبكة» ذائعة الصيت في زمن عبد الكريم، والتي لم تكن علاقتنا بها حسنة.
ولكن المدهش في زمن عبدالكريم أن أحد الجغرافيين السوريين وكان يعمل وقتها بمجلة «الفيصل» السعودية عثر على تساؤلنا بمجلة «الشبكة»، وكاتبنا على عنوان عبدالكريم قائلاً عرفت أن هذا التساؤل تائه، ذلك أن من يسأل عن النفري فرضاً لن يكون من قراء الشبكة.
وتفضل مشكوراً بتزويدنا بالسيرة الكاملة لكتاب المواقف والمخاطبات بدءاً من طبعته الأولى بالقاهرة ٦٣٩١ وحتى آخر طبعة بيروتية، حيث فصلت المواقف لوحدها في كتاب، وكذلك المخاطبات.
كان لعبدالكريم حاسة مبهرة في ملاحقة الكتب، وفي أحد صيوف أوائل السبعينات جاءني عبدالكريم بمنزلنا بحري ليخبرني بأنه وبعد معافرة عثر على نسخة من كتاب المواقف والمخاطبات بمعرض الكتاب القاهرة بنادي ناصر الثقافي بالخرطوم، ولكن بقالي الكتب بذلك المعرض لا يعرفون عن النفري أو عن كتابه، ولكن أنت وحظك عليك الاجتهاد، وقد كان، فامتلكنا نسخة من يتيم النفري ذلك، الذي شغل ناس سبعينات القرن الماضي وما زال.
كان من عاداتنا نحن مصاحبي زمن عبدالكريم أنه حين العثور على عنوان يستحق أن يقتنى، فإننا نشتري نسخاً لنا ولأصدقائنا، بل ومن عاداتنا التي داومنا عليها أننا نخصص يوم الجمعة من كل أسبوع للطواف على مكتبات العاصمة وأرصفة الكتب بحثاً عن الوافد من الكتب.
عبدالكريم عين نفسه بوظيفة قارئ بدوام كامل، وما فاض عن وقته يعمل فيه بوظيفة مدير مبيعات في أحد المصانع الوطنية، فالرجليحتاز درجة الماجستير في المحاسبة، حيث يتمكن من تدبير عيش أسرته.
صحب عبدالكريم ــ عبدالكريم ميرغني منذ العام ٤٨٩١، ولمدة خمشة عشر عاماً، ويوماً حتى رحيله حيث نشأة إلفة عززتها القراءة، وكما يختار عبدالكريم كتبه بعناية كذلك كان يختار البشر الذين يصاحبهم، وهكذا أصبح صديقاً لعبدالكريم ميرغني ولعائلته كلها.
وحين التقى Elena Vezzadini،والتي كانت تعد رسالة عن الرق في إفريقيا، وفي مرورها على تاريخ السودان باعتباره أحد مراكز تجارة الرقيق في إفريقيا، وهناك تعرفت مصادفة على ثورة ٤2٩١ السودانية، أنجزت إلينا رسالة الماجستير عن الرق، وأكملت رسالة الدكتوراه عن الثورة ٤٢٩١ في كتابها الموسوم
1924 THE
Revolution
Hegemony, Resistance, and Nationalism in the Colonial Sudan، والتي تعتبرها إلينا أحد ثورات
إفريقيا الكبرى، والتي لو قيض لها النجاح، لتقدمت كل حركات التحرر الإفريقي، ولتغير حسب رسالتها وجه ووجهة تاريخ إفريقيا السياسي والاجتماعي. أقول حين التقاها عبدالكريم وحاورها في منهجها في دراسة تلك الثورة سألته إن كان تخصصه تاريخ، وجحظت عيناها دهشة حين عرفت أنه رجل أرقام وقارئ باهتمام، وما يزال هذا الكتاب الفتح بانتظار من يترجمه كفاتحة لإعادة كتابة تاريخنا الوطني.إلينا تقول في آخر كتابها ****
..................
ثلاثين عاماً كان انقطاعاً مرعباً في زمن عبدالكريم، وحين هاتفني من أبوظبي، وأنه في طريقه إلي موقف حافلات الشارقة، قلت في نفسي، أن المجاز الذي أنقذ أبا الطيب عند وفاة خولة أخت سيف الدولة، والتي أشبع أنه كان علي علاقة حب بها وبسبب هذا الحب كان ذلك الانقطاع الذي حدثت أثناءه الوفاة وإن «شرقت بالدمع حتى كاد يشرف بي» لا شك منقذي هي مكيدة نالها المتنبي مبتغاه، ولكن هيئات! إن بلاغة الدمع وبلاغة الأحضان والتوكل على علة الكورتكس هي التي نابت عن بلاغة المجاز اللغوي الذي خذلني على الرغم ثراء أرشيف مثل تلك المواقف شكراً للدمع وللاحضان.
أدعو إلى اكتشاف مثل هذه البلاغات، فقد تحتاجها ذات عجز لغوي.
مرة حضر عبدالكريم محاضرة عن «طقوس القراءة»، قدمها سوداني مقيم في قطر، وكان ضمن حضورها مصري مقيم في السوداني، ونهض عبدالكريم وقد أطربته الفكرة، فقال «أنا عبدالكريم سوداني مقيم في السودان» الأمر الذي أثار لغطاً في القاعة.
ولكنني كلما سمعت هذه الملحة أضحك. كان المحاضر يتحدث عن عاداته القراءية ذلك أن عبدالكريم أراد أن يقول «أنا مواطن سوداني مقيم في السوداني، ولكنى قادر على الفرز بين «العادة والطقس» في مفهومه الانثروبولوجي.
عبدالكريم رجل أمين لوظيفته التي يجيدها «قارئ» وأمين لزمنه يحدثك عن قراءاته وهو في ذلك الوطن الجاف المتلان وأنت المقيم في وهم البترودولار، بعض الكتب وبعض الكتاب لم تسمع عنهم يصيبك الخجل، وبعضهم سمعت عنه ولكنك لم تسمع عن آخر إصداراته.
***** «In conclusion, this thesis aimed at reopening the question of the 1924 revolution, to bring new elements to light, but also to show how there is still much to be said, done, and written, to deepen our knowledge. The real hope of this work is not so much to have provided answers, but to have raised more questions. Only in this way is it possible to further research and broaden our understanding about this important episode of Sudanese history, in which for a moment differences among “‘abid” and “Arabs”, workers and educated, were “forgotten” and people were working together to build a nation representative of the whole.
The choices of the colonial Government made as a consequence of the 1924 revolution shaped the future history of the country, and in fact shaped it in such a way, that the perception of the past itself was affected. This is why, in the lost memory of the 1924 revolution, in the middle of the opacity of the sources dominated by power, only the reading of documents in a different way, trying to find alternative voices which break the dominant narrative, can finally bring us beyond the dominant perceptions of this revolution, and make us listen to what history has to tell us».
The 1924 Revolution /pv 426