السبت، 1 يونيو 2013

كتابات النوراللحمر

محاولة لكتابة نوع كتابي مختلف


إبراهيم اليوسف

صدرت مجموعة نصوص الزميل الفنان والأديب السوداني النورأحمد علي والمعنونة ب" كتابات النوراللحمر-"نصوص"، ضمن سلسلة كتاب دبي الثقافية، والموزع مجاناً مع المجلة-الإصدار83- مايو2013، وضم إهداء من المؤلف، ومقدمة مهمة بعنوان" أنوار" الزمن الجميل" كتبها د. حسن محمد موسى، استهلها بعبارة" النور يا" ضي اللمبة"  بلغة إشراقية شعرية، وإن كان سيتوقف خلالها عند محطات متنوعة في حياة النور، يستذكرها منذ تلك اللحظة التي التقاه فيها، وهويقود المظاهرات في بلده، أو يسيرفي مقدمة مسيرة جنائزية، غيابية، بعيد وفاة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وكيفية قيادته" الجبهة الديمقراطية في كلية الفنون" التي التقاه بها، وكان نجمه يسطع، كأحد النشطاء الفاعلين في الحراك، قبل أن تحدث التحولات الكبرى، وتتم سلسلة الانقلابات التي تودي ببريق الأمل اليساري والديمقراطي الذي كان النور أحد المشتغلين عليه، ومن دون أن  ينسى تبيان سبب تسميته ب"النورالحمر"، تمييزاً له عن" النور اللخدر" حيث كان هناك في الجامعة نوران:  النور محمد حمد و النور أحمد علي. و حقيقة تعد مقدمة د. موسى إحدى مقدمات الكتب الإبداعية، الأكثر وجدانية، و حميمية، وصدقاً، حيث كتبت بلغة أقرب إلى الشعر، بل هي الشعر في مفاصل عديدة منها، لاسيما عتبة الدخول الأولى التي يحلق المقدِّم بها، بل تدفع المتلقي للمشاركة معه، ومع مؤلف الكتاب نفسه، لاسيما في ما إذا كان ممن يلتقطون المفاتيح المشتركة بين هذين العلمين، حيث أن فيه تشخيصاً لخريطة الحراك الثقافي السياسي، في هاتيك المساحة الزمنية، ناهيك عن جرأة المقدم و هو يصرح بصوت عال: مكان النور الحمر، هو طاولة استوديوهات الرسم، لا طاولة الاجتماع السياسي...!

شاب، في مقتبل اللوحة، وعنفوانها، مقتبل القصيدة، وعنفوانها، مقتبل الموقف، وعنفوانه، مقتبل الرؤية،  وعنفوانها، يتحرك في فضاء شسيع يقول: ها أنا، لا يفتأ يعلن عن حلمه، بلا مواربة البتة، كي يستقرىء متابعه شفافية روحه، و طهرانيتها، من الداخل، عن طريق مداخل مهمة إلى شِفرة الهاوية الشخصية، بملامحها الكثيرة: الإباء، التفاني، رفع لواء الجمال-عالياً- من دون أية مساومة عليه، وهو ما يكمن وراء ابتلاع شِفرات غربته، كي تكون العين بوابة للنفس، لا يتلكأ العرفانيُّ عن قراءة كل هاتيك الرموز الصوفية الهائلة، من خلال تتبع نور الحبر، في إلكترونه، وألوانه، حيث ألوان اللوحة، كما ألوان الكتابة أدواته التي يستعين بها.

  وإذا كنا قد توقفنا عند هذه المقدمة، المهمة، فذلك لأنها تشكل مدخلاً جد َّمهم، إلى أحد الكتب الأكثر أهمية، من بين سلسلة إصدارات مجلة دبي، بل ومن بين ما طبع خلال الفترة الزمانية الأخيرة، لاسيما وأن كاتب المقدمة يقدم بوصلة مهمة إلى خريطة الكتاب، بل وقبلها إلى عالم النورالحمر،الفنان، الشاعر، الناص، الأديب، الإعلامي،كي نتقرّى أرومة انطلاقته الفكرية، غنى عنوانه الثقافي الأول الذي انطلق منه، قبل أن يصل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، ويواصل عمله في القسم الفني في جريدة الخليج التي تفوح برائحة أصابعه، وزملائه منذ ثلاثة عقود، ولم يحل وعيد النوبة القلبية، أو نذير الشلل النصفي الذي تعرض له خلال الأشهر الماضية من العودة إلى عمله، مستنداً إلى عصاه، المعدنية، تعينه على بَوصلة الطريق بين أسره المتعددة: بيته الصغير، ومقرّ عمله، وفضائه الأوسع، حيث تصل إشاراته، إلى متلقيه، عبرخطوطه الدافئة، والحانية، وهي تترجم ذبذبات روحه، وكهرباءها، في لوحة، أوعبارة.

نصوص تشبه الروح

نصوص تستنسخ الحياة:


ومادمنا في حضرة كتاب محدد للنور اللحمر، جاء بعيد كتابين إبداعيين، سابقين، له، وهما: سهو الآتي"2004- و" سبابة وقافلة وترجمتها محاولة لتصريف فعل ماض2008، فإنه لحري بالإشارة إلى مسألة مهمة، لابد من أن يعرفها المتلقي، وهي أن الكتاب ضم بين دفتيه أربعين نصاً، عنونها بطريقة مختلفة: في مديح ..الحرج- السكون- فتش ..فتش تاه- أمي اسمها حوة بت المبروك- كلاب رؤوف علوان- هذا طائر يبدع فضاءه-الجهل حين يحمل على الطرب- الموت الحياة- أبواب- أعلل النفس-حجر وكفى- "المشي في سيرة الألف"أ" –شجرة الغرم- سلطة البياض سلطة السواد- هيئة الحرف صورة البياض- ..ومشى البيت- إنه يحمل ليل وطني- محمد محمد مدني- في حضور محمد موسى عبدالله- الطوائف- من رسائل ال"ع" "أ" جيوشي من الأبجدية" –مدخل رسائل ال"ع" " ب/ اسمي" –مدينة الله- العلامات-/2- الفاصلة"،"- العلامات- شجن وابن بجدته- نفاج- شجون الحديث- "هل أنت يا وطني وطن؟"-الحزن- عزيزي عبدالواحد كمبال- المدينة كاف- التشكيل بخامة الجسد.. كرة القدم مثالاً- أفاطم- المترو- مالك وهبة/ معادلة الموت بالحياة- المفهوم والمتذوق- نشرة أحوال الجسد- حكم شرقية آسيوية"، وإن هذه النصوص- برمتها- كانت عبارة عن رسائل متبادلة بينه وأصدقائه ومنهم: د. حسن موسى وعبدالله بولا ومازن مصطفى ومحمد عبدالخالق وعادل عثمان ودكتور إيمان أحمد، وآخرون، وقد يذكر أسماءهم، أو يغفلها،  كما أنه أغفل نصوص رسائل هؤلاء-ربما لأن نشرها هو من حقوق أصحابها-أو ربما كان ذلك لاعتبارات فنية، حيث استطاعت النصوص أن تتحرر من إطار"أدب المراسلات"، لتكون نوعاً آخر، متحرراً، حيث هي أقرب إلى عالم النص المفتوح، وإن كانت حميمية حضور ظلال الأصدقاء، شركاء النور، في صناعة عوالم النص، يمنح النص نكهة فريدة، قد يستحق عليها أن ينال منزلة الريادة،  في كتابة أدب من هذا النوع،  له خصوصياته الإبداعية حقاً.

من يقرأ نصوص "كتابات النوراللحمر"لابدَّ سيلاحظ عمق تجربة وثقافة الرجل، حيث حضور الأسطورة، والتراث، والملحمة، والتاريخ، والأمكنة، وأسماء الأعلام، المتصوفة منهم، كما المفكرون، بل والساسة، كي يجاور الشعر السرد، ويتداخلا، في إهاب نص مفتوح على الدهشة، تحضر فيه الصورة الشعرية، كما تحضر الجملة التي تكتب وفق إيقاع روح صاحبها، حيث قوامها المفردة التي يتم توظيفها، بطريقة مختلفة، معتمدة على ذلك الزخم الهائل من إشاراتها، ودلالتها، لا تذكر بأي استخدام سابق لها، يقول في نص" حجر وكفى":

قنديل أخضر في آخر طرقات العتمة، دلني علي
كان التلو عالياً، والتلفت عالياً، . والنشيد عالياً،  النشيد عطر الروح
كنت وحيداً، وقنديل أخضر، وخلفي وحدتي تغني
كان النشيد مالحاً/ وكان القنديل مالحاً
ألقيت على قنديلي الأخضر السلام، وسرت خلفه
قلت: سأتدبر النشيد
أعرف العتمة. خبرتها زمناً، حين كان النخل أبجدية، والعشب قرطاساً
وكنت مداد الوجع الممتد، من أول مباهج اللون، وحتى آخر مباهج الأبجدية
تدربت حواسي، وخبرت كل مسارات الغلو والولوغ
الخوف فاكهة، وحين يستدرج الخلاء إلى فخاخه
أستدرج ظلي، أحادثه برفق، ويعلو التلو
أقرأ على متنه المشبع بالعتمة ضجراً وخوفاً
أتمهل في خطوي/ يسرع ظلي في خطوه

واضح، هنا، أن الناص يلجأ إلى التكثيف، والاختزال، واللمح الشعري، بل والفجاءة، والإدهاش، والصورة المستفزة، من خلال كهرباء شعريتها، وليس غريباً عليه ذلك، فهو الشاعر، ذو الحضور في عالم قصيدة النثر، ناهيك عن أنه الفنان التشكيلي البارز ليس على رقعة مكانه الأول، بل وعلى  مساحة جد واسعة، وبدهيٌّ، أن تقنية التشكيلي في رسم لوحته، تفرض سطوتها وهويمارس الرسم بالكلمات، وإن كان النص سيقدم نفسه، بأكثر من شكل توتري، يقول في نص" أعلل النفس..: الصحراء كتاب التيه، هل منكم من يقرا الرمل؟، هذا الغناء المالح..، صديق السموم، والمدلجين. الرمل المبرأ من خديعة السراب، الذاهب في انتحال الحلم في بلاغة المدى. الرمل المفرد في صيغة الجمع، الذاهب في محوك، هو لا يخدعك..، ولكنه يشي للشمس فعل الذهب..
غربال الماء وفخاخ الخرج
أنت لاتعبرالرمل مرتين..الرمل المتحرك من ضفاف الكذب، إلى ضفاف كذب آخر. الرمل مفرد كامل الهيئة، أنيق البلورة، وجمع في صيغة المفرد.

 وإذا كان الشاعر، يستحضر-هنا- أدونيس، من خلال الإشارة إلى عنوان إحدى مجموعاته الشعرية- وهو ذودلالة ورحب- فإنه يقتبس مفردة الرَّمل، في إطار تناول مفردات المكان، سليمبركاتياً، حيث كلا الشاعرين من أسرته الروحية، إلى جانب آخرين، من أسرته الكبيرة هذه، حتى وإن غدا بركات-نفسه- وإبراهيم محمود وآخرون، خارج دفتي الكتاب، لاعتبارات تتعلق بمقتضى مقام الحال. بيد أن رحابة فضاء الشاعر، وخصوبة أخيلته، وبراعته في التعامل مع أسِّ بناء الصورة، وتحديد موقعها ضمن عبارة النص، بل وغنى معجمه اللغوي، وجمهرات حشود مفردات التي تميل إلى الاشتقاق، وتسجل وئامها المختلف، لتعد ُّ من بعض علامات نص النور، وروحه، متلاطمة البحار، والقارات، والفضاءات، والكواكب الجارية في أوردة القلب التي ستظل في مواجهة العطب والخراب.

عود على بدء:


إن كتابات النوراللحمر، تؤسس في حقيقتها لجنس أدبي جديد، حيث فيه الموقف الجمالي من الناص للعالم، والأمكنة، والأصدقاء، حيث يلتقي عالما السرد، والشعر، في آن معاً، كما أن التشكيل والتقطيع السينمائي، والإيماضة، والنص المفتوح، بل المشهد الروائي، والنص القصصي، والمسرحي تتواءم معاً، كي نكون أمام نص مختلف، له خصوصيته، فهو ليس أحد هذه الأشكال الأدبية، وحدها، وهوأكثرمن كلها، لاسيما في ما إذا وضعنا- في البال- المشارك الآخرفي النص، الذي حفز اللحظة الإبداعية، بل ويضاف إلى كل هؤلاء قارىء النص، ذي الأرومة الإلكترونية، التفاعلية، والتي يتوزعها عالما: الأدب التفاعلي، من جهة، والنص التقليدي، في وعائه الورقي من جهة، أخرى، يقول في نص بعنوان" الجهل حين يحمل على الطرب"/
"أوقفني في موقف النار، وقال لي: إن رأيت النار، فقع فيها لاتهرب منها، لأنك إن هربت منها طلبتك فأحرقتك"  ص 66
وإذاكان النوعلي، يقدم نصوصه-هذه- كجزء من مشروع يشتغل عليه، وسيلاقي صدى كبيراً، عندما يتاح له أن يكون بين يدي متلقيه، فإن هذه النصوص، لابد ستكون حافزاً لنوع أدبي جديد- كما يخيل لصاحب وجهة نظرهذه القراءة- يجد له مكاناً في المكتبة الأدبية الإنسانية، عامة..!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق