السبت، 1 يونيو 2013

الرمز السناري بين السياسي والشعري

محمد عبد الخالق بكري

النور أحمد على تشكيلي سوداني معروف في الاوساط الثقافية السودانية وفي منطقة الخليج حيث يعمل لما يقرب من الثلاثين عاماً  ، له انجازات تشكيلية منذ ان كان طالباً بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية ،  توّجها في  اولى سنين مشواره بالفوز بالميدالية البرونزية في بينالي القاهرة الدولي في اول دورات انعقاده عام 1984م من القرن الماضي . وتوالت انجازاته بعد ذلك حيث نال جوائز عن مشاركات تشكيلية مع دائرة الثقافة بالشارقة ، وجمعية الفنون التشكيلية بالشارقة ايضً حيث كان عضواً نشطاً فيها، وكذلك نال جوائز من المجمع الثقافي بابوظبي.. لكن قليل من الناس يعلم ان النور من اميز شعراء الحداثة العربية في السودان ، فهو مقل ، على الاقل في نشره . ظلت شعريته الفذه ، عدا اعمال قليلة نشرت هنا وهناك ، حبيسة المعرفة المحدودة لاصدقاءه ، واي اصدقاء : د . محمد عبد الحي ، د. عبد الله بولا ، د . يوسف عيدابي ، د.حسن موسي وغيرهم قليل . محمد عبد الحي ، احد رواد مدرسة الغابة والصحراء الشعرية وابرز شعراء الحداثة السودانيين ، قام بنفسه عام 1975 بترجمة احدى قصائد النور ، (هنا ينتهى البحر) ، الى اللغة الانجليزية . صار عبد الحي فيما بعد استاذ الادب المقارن بجامعة الخرطوم ورئيساً لشعبة الترجمة في نفس الجامعة . عبد الله بولا الذى يعد من اميز المفكريين النقديين في السودان وتشكيلى متميز هو الآخر قال ان النور احمد على يعتبر من ركائز حركة الحداثة السودانية في السبعينات . اما د. يوسف عيدابي فقد كان له الفضل في دفع  اعمال النور القليلة التى رأت النور الى المطبعة ، مجبراً الاخير على مفارقة زهده في النشر .
وقعت مؤخراً على مجموعة النور الشعرية (سهو الأتيىّ) ، وازدات دهشتى فيما يتعلق بحظوظ النشر والانتشار . شعر صاف يسري من عينيك الى روحك كصعقة البرق .. فالنور يمتح من نفس معين رفاقه ، رموز الحداثة السودانية الذين استوت مواهبهم بنهاية الستينات واوائل السبعينات : يشترك معهم في الرموز الثقافية التى ركنوا اليها ، منابعهم الثقافية التى انتقبوها ، وفي قاموسهم الشعري  . غير ان له خصلة واحدة ميزته عنهم جميعاً وهى نظرة استراتيجية للواقع الكائن ، جعلته على خلافهم ينأى عن التبشير بمشروع كبير .
على خلاف محمد عبد الحي ، صديقه الذى يكبره بثمانى اعوام ، الذى ساهم في ارساء دعائم مدرسة الغابة والصحراء ، بمشروعه الشعري الرؤيوي الضخم الذى اجترح (سنار) المعروفة بالسلطنة الزرقاء في تاريخ السودان في العصور الوسطى ليجعلها رمزاً للهوية السودانية ، اخذ النور رموزها نحو الباطن ، باطنه كفرد ، يحتفل بتلك الرموز ويغنى لها في حدود فردانيته . وعلى الرغم من ان شعبه لم يغب عن رؤيته الا انه لم يبشر بمدينة فاضلة تحل فيها معضلة الهوية السودانية الشائكة .
تعرض مشروع عبد الحي لنقد جاسر ومحيق في مشروعه الرؤيوي ، هز ركائزه الفكرية وان احترم شعريته . يمثل قمة هذا النقد د. حسن موسي ، الذى لا يخف تقديره الطاغى لشعرية عبد الحي ، لكن يمضى في تفنيد عدم جدواه بل  ضرره في الحوار بل الصراع الدائر حول الهوية السودانية .يرى موسي ان الاصرار على سنار كمرجع للهوية السودانية والقوم الذين اسسوها ، الفونج ، باعتبارهم خلاسيين ، عرب افارقة ، يجرد التكوينات الثقافية والعرقية الاخري في السودان من حق الاختيار ويفرض عليهم خيار وحيد . فسلطنة سنار ذات مرجعية اسلامية ، فماذا نفعل بالسودانيين المسيحيين والوثنيين ؟ بل ماذا نفعل بالمسلمين المستعربين وهم  افارقة اقحاح ؟ اتت الضربة القاضية لمشروع عبد الحي السناري من الواقع السوداني نفسه بانفصال جنوب السودان هذا العام واصطدام مقولة امة الخلاسيين بصخرة الواقع العنيدة . هذا اذا اخذنا في الاعتبار ان اهم الاشارات الثقافية في قصيدة (العودة الى سنار) الشهيرة تتضمن الاشارة الصريحة  الى طقوس قبيلة الدينكا في جنوب السودان .
نحا النور احمد على منحاً مختلفاً في تناول الرمز السناري عن صديقه عبد الحي ، فكما اسلفت لم يلتفت النور الى مشروع بناء الامة وان عشق اجواء السلطنة الزرقاء ووظف رموزها . ويبدو ذلك واضحاً في قصيدته (ديك الجن) التى يهديها لصديقه محمد عبد الحي قائلاً «الى محمد عبد الحي : قارئ الماء وحارس مملكة العمار» والعمار هنا هو الحبر المخترع محلياً الذى كتب به الشيوخ السودانيين مخطوطاتهم في العصر الوسيط ولا يزال مستعملاً حتى اليوم مع الالواح الخشبية  في خلاوي تحفيظ القرأن .  ويلاحظ هنا التناص الصريح مع مفردة عبد الحي  حارس/حراس حيث قال عبد الحي»افتحوا ، حراس سنار ، افتحوا للعائد الليلة ابواب المدينة» . كما نلاحظ التناص المضمر بين مفردة مملكة لدى النور وسلطنة سنار في مشروع عبد الحي ، مع الاحالة الى مملكة الكتابة بدلالة مفردة العمار . لكنها كتابة مخصوصة ترتبط برمز حميم اجترحه عبد الحي .
تبدأ القصيدة ، والتى ربما كانت رثاء لعبد الحي :

شجر الطلح على النهر اضاء
ناشراً كل طيور الظل للنهر رداء
وعلى الشط
مناحاة واشجان حميمة
تغزل الدمع وشاحاً للنساء
وتساقي الرمل والماء شجون الاوفياء
يا صديقي
ثمر الكرخ الذي أحببته
خبأ في أعطافه طعم الدماء
وانثنى ينشر ألحان الهزيمة

يبدو واضحاً ان القصيدة حوار مع عبد الحي تعتمد قاموسه الذى اسسه في البحث عن سنار المدينة/السلطنة والرمز . ففي رحلة عبد الحي نحو سنار يأتى الى ذكر ديك الجن ، بل على وجه الدقة ارض ديك الجن ، حيث يقول في متاهته نحو سنار «صاحبى قل ! ما تري بين شعاب الأرخبيل أرض ديك الجن أم قيس القتيل ؟» وتأتى سيرة الكرخ ايضاً في قصيدة اخري هى السمندل يغني ، والسمندل نفسه من كائنات قصيدة العودة الى سنار . يستحضر النور في هذا المقطع حمص ، ارض ديك الجن ، والكرخ احدى محطات السمندل .  رمزان يحتلان موقعاً رفيعاً في صياغة عبد الحي  لرموزه ، يستحضرهما النور لكن في هيئة اخري غير التى رسمها عبد الحي . فالصورة المسيطرة لدى النور هنا موشحة بالدموع والحزن والشجن وختامها مفعم بالدماء :»ثمرالكرخ الذى احببته خبأ في اعطافه طعم الدماء» . هل هي اشارة رثاء للمشروع السناري؟ هل هي اشارة لتبدد تلك الرموزالكبري التى ارتبطت بتلك المدن وسقوطها في الدماء كما يعكس واقع اليوم ؟
تمضى مقاطع القصيدة في حوار النور مع صديقه الراحل مستحضرة رموزه الى ان يقول في ختامها :
ياصديق الصمت
في البحر الحريق
وعلى النطع بقايا وجه محبوبتك الأولى
بسنار
القديمة
حجرٌ يشهد ميلاد الجريمة

صورة مأساوية هذه الاخيرة ، تتكثف بمفردات الحريق والنطع الذى تتناثر فيه بقايا وجه المحبوبة بارض سنار القديمة . عندما نقابل هذه الصورة مع صور عبد الحي المفعمة بالاحتفالية بسنار حيث تموج الخيول بالحرير والاجراس «حيث بلور الحضور لهب أزرق في عين المياه» ، «ينبوعى الذى يأوى نجومى ، وعرق الذهب المبرق في صخرتى الزرقاء» ، تبدو المسافة شاسعة بين الحلم وما انتهى عليه .

كما اسلفت ، هنالك فارق بين مشروع عبد الحي الشعري ورؤية النور رغم التماسهما نفس المنبع مما لايسع المجال لتفصيله في هذا الحيز . غير انه لابد من اشارة تعكس عمق هذا الفارق . الاعلاء من رمز ما قد  يحمل تكثيف لرؤية الشاعر ومشروعه خاصة عندما يكون الرمز نفسه شخصية شاعر . في تناولهما للتراث السناري تخير كل من عبد الحي والنور شاعر من الحقبة وجعله بؤرة لرؤيته . انتخب عبد الحي الشيخ اسماعيل صاحب الربابة ، وكتب عنه في العودة الى سنار كما كتب عنه في مجموعة قصائده (حياة وموت الشيخ اسماعيل صاحب الربابة) ، اما النور فقد انتخب الشيخ فرح ود تكتوك ومهر مجموعته الشعرية باهداء له . كل من الشيخين شاعر ومتصوف طويل الباع ، عاشا زمن السلطنة الزرقاء وترجم لهما في الطبقات في خصوص الاولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان لمؤلفه محمد النور  بن ضيف الله . وهنالك فارق مبهر بين الشيخين فقد جمع صاحب الربابة بين التصوف والشعر والسلطة الزمنية فقد كان زعيماً سياسياً من نوع ما ، فقد كان لابيه نفوذ بين ملوك سنار وكانت امه اميرة ، ابنة لسلطان مملكة تقلى .   اما الشيخ فرح ود تكتوك فقد عرف بالزهد والبعد عن السلطان . فقد كان اقرب لعامة الشعب السناري وتحفظ الى اليوم اقواله كحكم شعبية موجزة ، ولعلها الاثر السناري الشفاهي الوحيد الذى تناقله الناس عبر القرون ونسب الى شخص بعينه .
يعكس كل من اختيار الشاعرين لرمزه نواة رؤيته ، فرمز الشيخ اسماعيل صاحب  الربابة بفخامته  يعكس السلطة السياسية ويشى بمشروع عبد الحي الذى بالقطع يتضمن السياسي . اما فرح ود تكتوك فقد نأى عن السلطة السياسية فهو صاحب القصيدة الشهيرة «يا واقفاً بباب السلاطين . . . « وفي الجملة كان اقرب الى غمار الناس في سنار وكان شديد التواضع والزهد ، وقد  سأله الناس «من اشعر انت او الشيخ اسماعيل فقال له المزية علىّ لانه فارس ولد فارس وانا فارس ولد الدّرّاق .»
في ظنى ان شغل النور على رمزية فرح ود تكتوك يعكس رؤيتة الفردانية لرمزية  سنار ، فسنار لديه ليس السياسي الذى يحل معضلة الهوية وانما سنار الخلاص الفردى والجماعي الكامن في حكمة الشيخ فرح ود تكتوك فقد وصفه في اهداءه بانه تاج الكلام حارس الديار بالعمار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق